لست من المؤمنين بنظرية المؤامرة، ولكن مبدئيًا يمكنني أن أقتنع بمؤامرة واحدة وهي "نظرية المؤامرة" ويمكنني أن أضع لها سيناريو هوليوديًا عن مجموعة من الرجال العجائز الأشرار الذين اجتمعوا في غرفة تم تلبيس جدرانها بخشب الماهوراكي. يحيطون بطاولة تم تطعيم خشبها الساجوري بما يبدو أنه النحاس (وهو في الحقيقة ليس كذلك، وإن كان مستخرجًا من مناجم توكيستو في زنجبار أيضًا)، يحيكون مؤامرة يتحكمون من خلالها بالشعوب الطيبة والبريئة.
من السهل إقناع النوع البشري بأن هناك مجموعة غامضة من الرجال الغامضين يجتمعون في مكان غامض، في أوقات غير منتظمة، ليرسموا مسار حياة الشعوب
ومن بين قهقهاتهم المخيفة تخرج الأفكار بكثافة، ليختاروا في النهاية أفضل مؤامرة تحقق أهدافهم الدنيئة، ويقع اختيارهم على "نظرية المؤامرة" بوصفها أفضل مؤامرة ممكنة، لأن من السهل إقناع النوع البشري بأن هناك مجموعة غامضة من الرجال الغامضين يجتمعون في مكان غامض، في أوقات غير منتظمة، ليرسموا مسار حياة الشعوب، ومصائر البلدان، وإشعال الحروب، وتحديد المنتصر فيها.
اقرأ/ي أيضًا: السيستم بدلًا عن المؤامرة
وهذه النظرية بحد ذاتها ستريحهم في قادم الأيام، إذ سيصبح بإمكانهم ترك الأشياء تحدث من تلقاء نفسها، ودون أن يبذلوا أي جهد سيحقق لهم المستسلمون المذعورون أهدافهم، فهؤلاء مستعدون سلفًا ليكونو هدفًا لمؤامرات غامضة، وبالتالي فلا حول لهم في تغيير مجرياتها ولا قوة لديهم لدفعها، فليسلموا أمرهم لله إذًا، ويرقبوا النيازك وهي تسقط فوق رؤوسهم.
ولكن ربّ السموات ـ جلّ اسمه ـ يأبى أن يسود الظلم العالم وينتصر الشرير على الطيب والغني على الفقير والقوي على الضعيف. فيكشف الحجاب عن بعض العيون ويجعلها ترى الأمور على حقيقتها، ويهبها القدرة على رؤية ما يجري في تلك الغرف الغامضة وسماع كل همسة تطلق هناك، ثم يَنْذُر أصحاب هذه العيون لمهمة جليلة: توعية الغافلين.
ويهبهم كذلك الجلَد والحكمة والصبر لاحتمال غفلة الغافلين، الذين لن يصدقوا للوهلة الأولى رؤيوية هؤلاء المتبصرين لمجرد أنهم يعيشون حياة طبيعية في أحيائهم وقراهم، ويعملون في مهن لا تتيح لهم حضور هذه الاجتماعات الغامضة مثل ان يكونو باعة مفروشات أو مدرسي جغرافيا أو مذيعي أبراج في قناة منوعات.
ولدى هؤلاء "الخاصّة" القدرة على معرفة الأسباب الخفية وراء كل الظواهر والأحداث، فحين تنشب الحروب فلأن هذا مرسوم منذ زمن طويل ومخطط له، فلا معنى إذًا لمحاولة دفعها، ولا قيمة لأخطائنا التي أدت إليها، وحين ينحبس المطر أو تتغير مواعيده، أو يهطل أغزر من الشتاء السابق، فهذا بسبب مشروع "هارب" الذي تتحكم من خلاله الولايات المتحدة بمناخ الكوكب، وتوزع نعمة المطر على الدول بمشيئتها كما توزع صواريخ كروز، وحين ينزلق أمير صحراوي لارتكاب جريمة تشبهه، فهذا لأن تلك اللجنة الغامضة أنهت تدريب أخيه وصار جاهزًا ليحل محله، وحين سيدمن هذا الأخ المخدرات فلأن اللجنة نفسها قد دست له من يوسوس في أذنه، لتتخلص منه، بعد ان أنهت تدريب ابن عمه.
لا دعوتنا المتحاربين للسلام تجدي، ولا مدّ شبكات الري وبناء السدود تعوض الخطر المحدق، وليس الأمير مجرمًا بطبعه، ولا خلفه مدمنٌ لعلّة نفسية فيه.
إنهم يتآمرون علينا، نحن مركز الكون، وبين أيدينا وتحت أرجلنا يقع كل ما يريده العالم من ثروات وموارد وأفكار، وكل ما يجري علينا هو نتاج مخطط شرير رسمته قوىً كليّة القدرة في الغرف المظلمة.
إنهم يتآمرون علينا، نحن مركز الكون، وبين أيدينا وتحت أرجلنا يقع كل ما يريده العالم من ثروات وموارد وأفكار
كثير من الناس يمضون حياتهم مفسّرين ما يجري حولهم بهذه الطريقة، دون أية محاولة للمقاومة أو التقدم، ويكتفون بتلبّس دور الضحية، ويرون العالم وفق الصورة الهوليودية التي وردت في السطر الأول، وهم لن يعدموا الوسائل والاثباتات والاستشهادات التي تعج بها الكتب ووسائل الإعلام، فما الكتّاب في النهاية؟ إنهم كغيرهم من البشر، فيهم نسبة من المتبصّرين المؤمنين بنظرية المؤامرة، لكن لديهم الادوات التي تمكّنهم من طباعتها والقائها في وجوه الآخرين.
اقرأ/ي أيضًا: عالم يستحق سوء الظن
خارج العقول الكسولة التي تناسب نظرية المؤامرة طبيعتها، يصح ـ بمعنى من المعاني ـ أن نقول إن الأشياء تحدث من تلقاء نفسها، وحين نقول ذلك، فنحن نقصد قوانين الصدفة من منظور العلم، حيث أن كل ما يحصل في العالم يحصل لسبب ما، ولكن هذا السبب غالبًا ما يكون اجتماع ملايين الأسباب الصغيرة والضئيلة، وهي متنوعة وضئيلة للدرجة التي يصعب (أو يستحيل) احصاؤها وتحديد نسب تأثيرها، فنكتفي بالقول أنها حدثت.
اقرأ/ي أيضًا: