بين الكثير من الأسئلة التّي قد يسألها الطّلبة الجامعيّون لأساتذتهم، يتفوّق سؤال: "دكتور/ة، أخذتِ حضور وغياب؟" بكونه الأكثر تكراراً. لا توقيت يُحدّد مناسبةَ هذا السؤال؛ فيسأله الطّالب فور وصوله إلى المحاضرة أو فور مرور السّؤال برأسه أثناء المحاضرة. وكأنّ حدّ الغيابات المسموح به لدى الطالب رصيدٌ واقف في حسابه يحرّكه استفساره عنه. أكاد لا أُحصي عددَ المرّات التّي قاطعني بها أحدهم في المحاضرة ليسألني إن كنتُ قد سجّلت الحضور والغياب بعد. كما أنّني تمكّنتُ وأخيراً -إلى حدٍّ ما- من ممانعة شعور الإحباط الذّي كان يتملّكني كلّ مرّة يصل بها سؤال أحدهم عن الحضور والغياب كردّ على سؤالي: "في إشي مش مفهوم بتحبّوا أوضحه أكتر؟ أو حدا عنده سؤال؟". ولكم أن تتخيّلوا قدرة هذا النّوع من الإجابات على تشتيت محاولات الأستاذ السّاعية إلى تحقيق جدوى الشّرح المبسّط لتحقيق "الفهم".
كأستاذة جامعيّة ملتزمة بمبادئ تربويّة تحريريّة، في محاضراتي عموماً، عادةً ما أتحرّى السّبل الممكنة لتحرير القاعة الصّفيّة من الجمود الذّي تفرضه المؤسّسة الجامعيّة
هذه الحاجة عند الطالب يمكن تأصيلها في نوع "المعاملة" بين الطالب والجامعة ضمن قطاع التّعليم العالي؛ الطالب كمشترٍ للخدمة والجامعة كمزوّدٍ بالخدمة. الخدمة هنا هي "المؤهّل العلميّ" وهي مشروطة بضوابط معيّنة تلزم كلّاً من الطّرفين بمدوّنة قواعد للسّلوك تندرج تحت البنود التّي تنصّ عليها قوانين الجامعة. تبعاً لهذه الضّوابط يلتزم الطالب بالحضور ومتابعة ما يتطلّبه تحصيل المؤهّل العلميّ، كما تلتزم الجامعة بالمقابل بتوفير الموارد الضّرورية التّي، أخيراً، ستؤهّل الطالب للحصول على شهادته العلميّة. فمثلاً، كما يُلزم الأستاذ بتقديم المحاضرات للطّلاب، يلتزم الطالب بحضور محاضراته. فإذا ما تجاوز الطالب سقف الغيابات المسموح به فإنّ ذلك يحتمل إنذاره أوّلاً، فحرمانه. لذلك، وفي سياق نوع التّعاقد المعاملاتيّ هذا بين الطالب والجامعة فإنّ حاجة الطّالب لتوثيق عدد مرّات حضوره وعدد مرّات غيابه هي، بالتّأكيد، أمرٌ مفهوم.
وإن كان فهمنا للعقد القائم بين الطالب والجامعة يبرّر حاجة الطالب لتتبّع رصيد غياباته إلّا أنّ تحوّل هذا التّتبع من كونه ممارسة اعتياديّة إلى ممارسة قلقة مما يجعل الحاجة "ملحّةً" يسترعي الاهتمام والسّؤال: كيف يفرّغ هذا القلق الحضور والغياب من معانيهما؟ كأستاذة جامعيّة ملتزمة بمبادئ تربويّة تحريريّة، في محاضراتي عموماً، عادةً ما أتحرّى السّبل الممكنة لتحرير القاعة الصّفيّة من الجمود الذّي تفرضه المؤسّسة الجامعيّة بطبيعة الحال. بالتّالي أتساءل، في حال اتّخذنا منظوراً تربويّاً تحريرياً لفحص موضوع الحضور والغياب لا كمدوّنة سلوك تؤطّر المنظومة الضّابطة للحقوق والواجبات ضمن مؤسّسة التعليم العالي بل كسؤال أخلاقيّ، فما هو النّقد الممكن "للدّافع" للحضور و"للرّغبة" بالغياب؟
إهمالٌ غير مقصود
"دكتورة، ما كان قصدي!"، قالت لي واحدة من الطالبات وهي تدافع عن نواياها المبطنة لأسباب غيابها متداركةً الموقف علّها تخفّف من الإحباط الذّي كان بادياً عليّ. هذه الطالبة هي واحدةٌ من تسعة طلّاب أدرّسهم أحد مساقات التّصميم لهذا الفصل الدّراسيّ. جاء هذا التبرير لغيابها بعدما عاتبتها لتغيبها وستّة طلّاب آخرين عن واحدة من محاضرات المساق. فرضت خصوصية المحاضرة هذا النوع من العتب؛ كنتُ قد نسّقت لها مسبقاً مع محاضرةٍ زائرة. "أتعلمون مجموع عدد السّاعات الذّي استغرقني واستغرق ضيفتي للتّحضير لهذه المحاضرة؟ ألم يكن من الأفضل إشعاري مسبقاً بصعوبة الحضور؟"، سألت طالبتي باستياء متداركةً حجم الاستهتار الذّي يدفع معظم أفراد شعبتي إلى استسهال اتّخاذ قرار الغياب.
يحتلّ هذا المساق، "التصميم المعماريّ" أو "الاستوديو"، بالغَ الأهمّيّة في جدول الطالب وفي جدولي كذلك. في هذا المساق، نلتقي أنا والطّلبة مرّتين أسبوعيّاً. في كلّ مرّة تطول المحاضرة مدّة أربع ساعات؛ أي نجتمع لمدة ثماني ساعاتٍ أسبوعيّاً. حينما أُوضّح لأحدهم ضرورة بناء علاقة أليفة مع الطّلبة نتشارك بها ما يتجاوز حدود المعاملة المؤسّسيّة بين الطّالب والأستاذ، أتكئ عادةً على هذه الحسبة للسّاعات. فأسأل باستنكار، "وهل أقضي ثماني ساعاتٍ أسبوعيّاً مع أيّ من أهل بيتي أو المقرّبين من أصدقائي؟".
- اهتمامٌ مقصود
خلال مساقات التّصميم، يعمل الطّلبة ضمن مجموعات بحيث يتقاسمون مهام التّفكير والعمل والتّصميم على مدار الفصل الدّراسيّ. تختلف تجارب الطّلاب ضمن هذه المجموعات. بعضها ينجح بطرح نموذج للفريق المتكاتف. في هذا النّموذج، يتقاسم الطلبة بينهم وبين بعضهم المهامّ بطريقة تعرّف بمهاراتهم المتفاوتة، وتساوي بينهم بتحمّل المسؤوليّة. بالمقابل؛ تفشل مجموعات أخرى بتقديم نفس النموذج. تنطوي خبرات كثير من الطلبة ضمن هذه المجموعات على تجارب تعيسة غير منصفة؛ لا يتوزّع العمل بها بناء على المهارات ولا يتساوون بها بالمسؤوليّات.
في بداية الفصل الدّراسيّ، طلب عدد من الطّلبة إعادة تقسيم المجموعات. بعد أن عجزت الوسيلة في مفاوضة تشكيل مجموعات جديدة غير تلك التّي ولّدت الشّعور بالغبن لدى البعض، فضضتُ عمل المجموعات بصورته النّمطيّة واقترحت نموذجاً أكثرَ مرونة لعمل الطّلبة. يقوم النّموذج الجديد على مبدأ الاختيار، بما يضمن ألّا تطول المدة التّي يعمل بها أحدهم داخل مجموعة واحدة، وأن يجرّب كلّ منهم العمل مع أفراد جدد خلال الفصل الدّراسيّ. أدرج للطلبة نوع البحث المطلوب لتلك المرحلة، وطبيعة المهام المترتّبة وبناء على ذلك، يختار كل منهم ما يهتمّ بالمشاركة به. مثلاً، في طور البدايات حين كنّا نجمع البيانات عن المنطقة الحضريّة؛ خُيّر الطلبة إن كانوا يفضّلون العمل على جمع البيانات المعماريّة أو التّاريخيّة أو الإداريّة. وزّعت المهام فيما بينهم بناء على اهتماماتهم الفرديّة. بهذه الطّريقة، تقسّم العمل فيما بينهم بناء على الاهتمام وصار العمل في مجموعات قابلة للتّغيير.
ترهيبٌ غير مقصود
لم تكن تلك المرّة الأولى التّي يتغيّب بها مجموعة من الطّلّاب جماعيّاً عن واحدة من محاضراتي. على سبيل المثال، في سنواتٍ سابقة وفي نفس ذات المساق، كنت قد أعلمتُ طلبتي بموعدِ زيارةٍ كنت قد خطّطتُ لها إلى المنطقة الحضريّة التّي ندرسها. استغرق تخطيطي للرّحلة أسبوعين؛ متضمنا ذاك التّنسيق مع الجهات الأمنيّة والإداريّة ومع من يستضيفنا في المنطقة الحضريّة. يوم زيارة الموقع، تغيّب أكثر من نصف الطّلبة وحينما حقّقتُ بالأسباب، كان الضّغط النّفسيّ النّاشئ عن مساق دراسيّ موازٍ هو السّبب، "دكتورة عنّا بكرة امتحان مفاجئ عليه ١٥ علامة وضروري نشتغل". لاحقاً لخيبة غياب أكثرهم عن زيارة الموقع، تحدّثت مع الزميلة المسؤولة عن المساق الموازي لأستفسر عن امتحانها موضّحة أنّ توقيته "المفاجئ" يتعارض مع توقيت زيارة الموقع "المخطّطة". علمت منها أنّ هذا التّهديد صوريّ لأنّ الطّلّاب لم ينتجوا عملاً جدّيّاً إلى الآن وهذه الرّعبة ضروريّة لدفعهم نحو العمل بشكل أكثر جدّيّة. "دكتورة، بيني وبينك، أنا ما رح أحطّ ١٥ علامة. بس هي مشان أحسّسهم بضرورة العمل".
وإن كان ثمّة رسالة يحملها لنا هذا الموقف فهو التّذكرة الكريمة بصعوبة اتّباع نهج تحريريّ إن كان لا يعدو كونه قيمةً فرديّة لا تتبعها الجماعة. حينما يعتذر الطّلّاب عن غيابهم عن محاضرتي، مقابل التزامهم حضور محاضرات زملاء وزميلات آخرين، عادةً ما يبرّرون أسبابهم عبر خضوعهم لنفس أدوات السّلطة التّي أحاول جاهدة تحرير غرفتي الصّفيّة منها. "دكتورة بخاف أنحرم إذا بغيب عندها بس أنتِ كريمة!". يتحوّل كرمي من كونه "قيمةً" أسعى من خلالها إلى التّعزيز من مكانة طلبتي إلى كونه "رصيداً" من السّاعات يستثمرونها هم خضوعاً لضغط من يستخدم أدوات السّلطة المتاحة له\ها من زملائي. يدفعني خضوع الطلاب هذا إلى التّفكر في جدوى التّخلّي عن أدوات السّلطة منذ البداية وإلى التّشّكّك في قدرتي على إحداث أيّ نوعٍ من التّغيير.
- عطف مقصود
زيارة الموقع هي واحدة من أهمّ التّقاليد المرتبطة بمساق التّصميم؛ خاصّةً إذا ما تعلّق الطّرح بمسائل حضريّة. جرت العادة أن يختار الأستاذ/ة موقعاً ضمن حدود المحافظة التّي تتبع لها الجامعة. مثلاً، إن كانت الجامعة في العاصمة عمان، يكون الموقع داخل العاصمة. بينما توفّر هذه العادةُ الوصوليّة المستمرّة للطّلّاب إلّا أنّها تقلّل من فرصهم بالتّعرف على مواقع خارج مراكز مدنهم. وهو الأمر الذّي أراه إشكاليّاً خاصّةً إذا ما كانت ضمن العاصمة عمّان لأنّه يعزّز من العلاقة السّلبيّة بين العاصمة والمحافظة؛ فكما نعرف، تتفوّق العاصمة عمّان كمدينة على نظيراتها من المحافظات بالاهتمام المولى للخدمات فيها وهو ما يرسم علاقة عمّان بالمحافظات الأخرى كمركز وهامش. ناهيكم عن أنّ معظم الأسئلة الحضريّة المطروحة في استوديوهات التّصميم تطوف في فضاء ما تخطّطه أمانة عمّان دون الأخذ بعين الاعتبار واقع الحال الذّي يبقى غائباً عن رؤية كثير من حضريّي ومخطّطي مدينة عمّان.
أهدف في مساقات التّصميم، ذات السّؤال الحضريّ خصوصاً، أن أُعرّف طلبتي على محافظات أخرى؛ مثل المفرق وإربد. هذا الخروج عن حدود العاصمة عادة ما يضفي على زيارة الموقع أهمّيّة خاصّة، كأنّها مهمّة رسميّة لا تخلو من التّرفيه. أخطّط عادةً لثلاث رحلات أحرّك عبرها الموارد المتاحة لأمكّن الطلبة من التّعرف على المكان بشكلٍ إثنوغرافيّ فيشهدوا بذلك نسيجه الحضريّ والاجتماعيّ خلال جمع البيانات. في رحلات الذّهاب، نمرّ سويّاً بمخطّط رحلتنا، من سنقابل وكيف ننقسم إلى مجموعات بمهامّ متفرّقة وعلام ننتبه. وفي الإياب نراجع مجريات زيارتنا، لنتفكّر سويّاً بالبيانات التّي قمنا بجمعها. كلّ ذهاب وإيابٍ يحملان في ثناياهما أسئلةً جديدة قادرة على تركيب سؤالنا الحضريّ بشكل أكثر تفصيل.
عتبٌ على قدر التّعب
حتّى نستغني عن الطّرق التقليديّة في التّدريس، يترتّب على الأستاذ قطع أشواطٍ من المحاولات لتحدّي هيكل السّلطة التّي تنسج هذا التّقليد. ممّا يترتّب على الأستاذ مثلاً، إعادة تشكيل أدوات القياس والتّقييم التّي تُتّبع عادةً لتقييم الطلبة. مثلاً، وإن بدت طريقتي في استحداث عمل المجموعات سهلةً في ظاهرها، إلّا أنّ الشّجاعة التّي يستلزمها هذا التّغيير تكمن في استعداد المدرّس لتقديم ساعات أكثر من وقته للتّفكير والاختراع والتّقييم. جرت العادة أن يتمّ تقييم عمل المجموعة بناء على ما تقدّم في كلّ مرحلة، ويعتمد التّقييم الفرديّ للطّالب أخيراً على تقييم مجموعته التّي ينتسب لها. أمّا في حالة العمل وفقاً للمقترح الذّي قدّمته للطّلبة، فإنّ التّقييم الفرديّ أخيراً يحتاج إلى متابعةٍ حثيثة على مدار الفصل الدّراسيّ وعلى معادلة قياس مركّبة تأخذ في عين الاعتبار عمل كلّ منهم وإسهاماته الفرديّة والتّي تكون بهذه الحال متقطّعة. بالنسبة للزيارة الموقع، فتبرير الحاجة لدراسة موقع خارج إطار العاصمة يحتاج إلى تقديم الحجّة والدّليل لتبرير اختياره\ها لموقع خارج العاصمة أمام الجهات المعنيّة بتيسير هذه الزّيارة بمن فيهم الطّلبة. في مرّة من المرّات، سألني أحد الطلبة متململاً من زيارة الموقع، "ليش المفرق، دكتورة؟". فأجبته، "لمَ لا؟".
يواجه الطالب صعوبةً في فهم هذا التّعب المبذول في سبيل تعزيز قيمة الحضور والمشاركة. في لحظات استيائي من تكرار غيابات بعض الطلبة عن محاضراتي، خاصّة إذا ما كان الغياب جماعيّاً، "أنا لست المسؤولة الوحيدة عن المعلومة. كيف تتلقّوها وكيف تفهموها وكلّ الأسئلة التّي تسألونها عنها هو جزء من المحاضرةّ". وإن كانت بعض عباراتهم تنطق هذا الفهم، مثلاً كثيراً ما يعرب لي الطّلبة عن ارتياحهم في الاستوديو، "دكتورة باجي للاستوديو خفيفة"، أو "دكتورة كنت أخاف أحكي، بس عندك بطلت أخاف". إلّا أنّ الثقافة السائدة بين كثير من الطلبة المنتسبين إلى الجامعة، والتّي تصوّر حياة الجامعة العلميّة على أنّها همٌّ لا بدّ له وأن ينجلي، تبدّد الاحتمالات الممكّنة لهذا الفهم، مما يؤدّي إلى تبديد جدوى "العلم" بوصفه رسالة جادّة. إنّ التفكير التقويميّ الضابط لكثير من الطرق التّدريسيّة التقليديّة مسؤول عن إنتاج هذا النّوع من الثّقافة، لكن، ألا يشارك الطّالب نفسه بإعادة إنتاج نفس الطّرق إذا ما عجز عن المباينة بين تجاربه التّعليميّة؟
ربّما تكون المساحة المتاحة للتّحرير من هذه الطّرق ضمن الهيكليّة التّي تفرضها المؤسّسة ضئيلة وهو الأمر الذي يجعل أيّ شكلٍ ممكن من أشكاله يبدو وكأنّه زائفاً.
ربّما تكون المساحة المتاحة للتّحرير من هذه الطّرق ضمن الهيكليّة التّي تفرضها المؤسّسة ضئيلة وهو الأمر الذي يجعل أيّ شكلٍ ممكن من أشكاله يبدو وكأنّه زائفاً. إلّا أنّ المحاولات السّاعية لهذا التّحرير تحتفظ بأهمّيتها بحيث يصبح التّحرير كامناً في تبادل استشعار قيمة المحاولة نفسها بين الأستاذ والطّالب. إذا ما غابت قيمة الاستشعار هذه من عند الطّالب ما الذّي يتبقّى للأستاذ\ة من محاولات؟