يعتبر فن الهيب الهوب، الذي يشكل أكثر من نوع موسيقي، أحد أهم فنون الاحتجاج حول العالم، وهذا في نشأتهِ وفي حاضرهِ. بطبيعة الحال، ينسحب هذا على العالم العربي، حيث توجد الكثير من الفرَق أو الأفراد الذين يؤدون هذا الفن، الثوري في طبيعته، ويعبّرون من خلاله عن أفكار ومبادئ يؤمنون بها، أو عن قضايا كثيرة تعاني منها مجتمعاتهم، كضيق عيشهم، طغيان وفساد حكّامهم ورفضهم للظلم ولشتى أشكال التمييز بين البشر. وقد يختلف محتوى الأعمال التي ينتجها فنانو الهيب الهوب، تبعًا لأماكن سكنهم واختلاف محيطهم. تتعدد ملامح أعمالهم تبعًا لتغير ظروفهم، كالهجرة القسّرية الى بلد آخر بسبب الحرب، النزوح في البلد الواحد لأسباب معيشية او سياسية مثلًا، أو السفر لأسباب شخصية. ذلك لأن معظم هؤلاء الفنانين يكتبون أعمالهم بأنفسهم، وهذه الكتابات مرتبطة بأفكارٍ من الطبيعي أن تنتج عن ما يعيشونه في تفاصيل يومياتهم.
من الصعب إنجاز أي حفلة في بعلبك لأنه ممكن ببساطة أن يحطموا المسرح
واحد من هؤلاء المعروفين في "أندرغراوند" بيروت، هو مغني الراب بوناصر الطفار، الذي بدأ مسيرته في منطقته بعلبك، شرق لبنان. في ألبوم "صحاب الأرض" كانت البداية. يقول ناصردين في معرض شرحه لعملهِ "حاولنا أن نسقط كل معتقداتنا ومبادئنا على بعلبك كمثال، وأن نعممه"، لافتًا إلى أن "الأغاني القديمة، انتشرت في بعلبك أكثر بكثير من بيروت، لتنتشر لاحقًا في الضواحي". والتعميم سمة أساسية من سمات مغني الراب، وهي تعرضهم لاتهامات بالشعبوية، لكنها اتهامات لا تضايق المتعرضين إليها، فهم يعتبرون الانتماء إلى الناس سمة من سماتهم الرئيسية.
وعن أسباب انتشار الأسطوانات في بيروت، يرى أحد مؤسسي فرقة "طفار"، أن ذلك يعود لعدة أسباب، أولاً وزعنا اسطوانات CD على الناس والبيوت والفانات، حافلات النقل العام، مجانًا. ثانيًا، الألبوم يتناول مواضيع تخص "أهل المنطقة" ويتحدث عن يومياتهم وأوجاعهم، التي لا تعني شيئًا، في بعض الأحيان، للأشخاص الذين يعيشون خارجها. ثالثًا، مضمون الألبوم كان متماشيًا مع التوجه السياسي العام المسيطر، فلم تثر المواضيع التي تحدثنا عنها أي جدل".
بعد مرحلة "صحاب الارض" عمل ناصردين تدريجيًا على الخروج من فكرة إسقاط كافة المواضيع على منطقة بعلبك، فانتشرت الأغاني الجديدة أكثر في بيروت.. "لأنني صرت أتطرق للقضايا بشكل أوسع، ولأنني كتبت عن بيروت من خلال نظرتنا نحن اللاجئين والوافدين من الأرياف، ولأنني خرجت عن الـ99.99% الموجودين في بعلبك". لهذه الأسباب، تعرض الشاب لمقاطعة واسعة، خصوصًا وأن "قوى الأمر الواقع في بعلبك علّمت الناس أن رأيها هو الصح وأن أي رأي آخر هو خائن وعميل". والمقصود بقوى الأمر الواقع، هو القوى الحزبية المسيطرة على منطقة البقاع اللبناني، أي حزب الله. ولتلك الأسباب، من الصعب إنجاز أي حفلة في بعلبك، لأنه "ممكن ببساطة أن يحطموا المسرح". يعقب ناصر الدين "في أي حال المدينة مشغولة بالمآتم وليس لديها وقت للموسيقى، عنصر الشباب في المدينة قلّ كثيرًا، لأن معظمهم هاجر أو ذهب للقتال في سوريا". بالنسبة له، اليوم الذي يقوم فيه بحفلات جديدة في بعلبك هو يوم انتصار وعودة، لأن كل حفلة تنجز في بيروت لها "حيز صغير من الهزيمة". يحن ناصر الدين إلى مدينته الأم، ويغني في بيروت الآن لأنه ينتمي إليها أيضًا، ولكن شرط "أن تكون كلماتي نفسها، وأن لا تخضع لمعايير أحد".
يحن ناصر الدين إلى مدينته المحرومة ويغني في بيروت الآن
بدوره، تحدّث رائد غنيم، الذي بدأ مسيرته في مخيم اليرموك في سوريا، عن عدم توافّر أدنى المتطلبات والإمكانيات لتنفيذ أي عمل أو حفلة في المخيم، وقال "بين العامين 2008 و2010، أي في مرحلة ما قبل الحصار، كنا نسهر نحو أربع ساعات في "كافيه انترنت" للبحث عن مقاطع موسيقية "انسترومنتل" مجانية متوفرة على الإنترنت، لنحتفظ بها لمدة شهر أو أكثر، حتى نوفر أجرة التسجيل في الاستوديو، وبعد توافر المال، كنا نذهب إلى الاستوديو في الشام حاملين كلماتنا و5000 ليرة سوري مقابل ساعة واحدة من وقت التسجيل".
يتذكر غنيم مرحلة الحصار "انتشر عملي فعلًا من قلب الحصار، أي من الـ2012 حتى الـ2014، لأنه ورغم غياب أدنى مقومات الحياة من مياه وطعام وكهرباء، الا أنني استطعت نقل ما نعيشه من معاناة في الحصار إلى خارج المخيم، من خلال تسجيل صوتي على ما أكتبه، عبر هاتفي ودون موسيقى، ونشره". كان نضالًا حقيقيًا لا يرغب غنيم أن يتباهى بهِ. انتقاله إلى بيروت شكل "نقلة نوعية" للموسيقى التي يعمل عليها، فمن جهة "شكلت صداقات حقيقية مع من كنت أتواصل معهم افتراضيًا، وهم يعملون في ذات المجال الموسيقي"، ومن جهة ثانية، اتسع محور أفكاره التي تدور حولها كلمات أعماله، وأصبحت تشمل قضايا أكثر، وهذا المهم لأن "موسيقاي هي موسيقى فردية بحتة ولا ترتبط بأي شركة إنتاج".
من جهته، يعرّف "وتر"، مغني الـ"هيب هوب" من فرقة "لتلتة"، الهيب هوب على أنه ثقافة ووعي ومشاركة أفكار وآراء، و"لا مجال للمقارنة بين الحفلات التي قمنا بها في سوريا والتي نؤدّيها في بيروت لأن مساحة الحرية في الأولى ضيقة بما يخص محتوى الأغنية، لذا لا نسطيع أن نعبر عما نريده كما في بيروت". بيروت مسرح مفتوح للكلام... "ولكن هذا لا يلغي احتمال وجود المخاطر في أي وقت". أما تسجيل الألبومات وتصوير مقاطع الفيديو فهو أسهل في بيروت من سوريا، لأن في الأخيرة لا نستطيع إظهار الكاميرا في الشوارع والتصوير من دون موافقة الحكومة. وللموافقة شروط وقيود كثيرة حول محتوى الأغنية والفيديو.
التسجيل في بيروت أسهل من التسجيل في الشام بسبب القيود والضوابط في سوريا
وعن ارتباط كتابة الأغنية بالمحيط الذي يعيش فيه، يقول وتر: "لا بد من تغير كلمات الأغنيات، مع تغير المحيط، ولكن هذا لا يغيّر الهدف الكامن وراء هذه الكلمات، والدليل أنني كتبت مقطعي من أغنية "بوم بوم بام"، مع بو كلثوم من لتلتة، وكنت مازلت أعيش في الشام، وكتبت مقطعي من أغنية "بيروت خنقتنا"، مع بو ناصر الطفّار، بعد مجيئي إلى بيروت، ومحتوى الأغنيتين مختلف تمامًا ولكن البيئة والظروف شبيهة، من حيث الحرب والفساد.. إلخ، وهدفي منهما هو التوعية وإظهار الحقائق والوقائع".
من جهة أخرى، أكد "الأصلي"، الذي بدأ الغناء عام 2005 في أبو ظبي وعمل لمدة 4 سنوات مع فرقة "Underground Arab Group"، أنه بعد تركه الفرقة وحتى العام 2010، غنّى عن المشاكل الاجتماعية وعن القضية الفلسطينية والقومية العربية... إلخ، دون التعمق فيها، بسبب القيود التي كانت مفروضة عليه. الحديث في السياسة والدين في أبو ظبي محظور، ولكنه بدأ يتطرّق إليهما وإلى غيرهما من المواضيع بحرية، بعد اندلاع ثورات الربيع العربي.
في بيروت عالم آخر، فاللهجة التي يستخدمها في أغنياته أقرب إلى لغة البيروتيين والسوريين والفلسطينيين، كما الغناء عن معاناة الناس ممكن في بيروت أكثر من أبو ظبي، وليس ذلك تمييزًا عنصريًا ضدّ أبو ظبي، لأن الهوامش والمحرومين موجودين هنا برأيه. في أبو ظبي لا وجود للحفلات... "لأن المستمعين، إن وجدوا، كانوا يستمعون إلى أعمالي عبر الانترنت، ولهذا السبب تركت أبو ظبي وتوجهت إلى بيروت". كان باستطاعته الذهاب إلى أوروبا أو مصر أو أي مكان آخر ولكنه اختار بيروت لأن المساحة والحرية التي أرادها موجودين فيها. أما سوريا... "فهي مرحلة ما بعد بيروت".
من بعلبك لطرابلس للشام ويافا