تريد جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان، المتماهية على الدوام مع مواقف المملكة العربية السعودية، في كل ما هو مشين، مثل الصمت عن الجرائم الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني والمسجد الأقصى، وفض اعتصام رابعة العدوية في مصر بتلك الوحشية المفرطة، أو قتل الصحفي والكاتب السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلده، أن تذكرنا دائمًا أنها منقادة إلى خادم الحرمين وليس إلى رب الحرمين.
تتماهى جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان، على الدوام، مع المواقف السعودية في كل ما هو مشين
وهو تناقض فج سقطت فيه الجماعة التي حادت عن خطها الدعوي، وولجت في مشرَب السياسة العكِر بالدسائس والمؤامرات والذرائعية، إلى درجة تسبغ عليها كل صفات التدين الشكلي فقط لا غير.
اقرأ/ي أيضًا: اغتيال خاشقجي وهوس السلطة بالقتل
على وقع جريمة الإخفاء القسري للصحفي جمال خاشقجي، أصدرت جماعة أنصار السنة بالسودان، تصريحًا على لسان رئيسها إسماعيل عثمان، حول ما تتعرض له المملكة العربية السعودية من مهددات حسب زعمه. وطفق إسماعيل يتحدث عن أن التهديد يستهدف تمزيق السعودية وتقوية أعدائها وتمكينهم في المنطقة، عازفًا على وتر العاطفة الدينية، بأن ثمة حملة مغرضة تريد النيل من الحرمين الشريفين ومن يرعى شؤون المسلمين. فيما يمضي التصريح على ذلك النحو المتخم بالسذاجة، دون أن يجيب على السؤال المهم بخصوص قتل رجل مسلم وتقطيع جثته بدم بارد تحت أنغام الموسيقى المُسلية!
بكل ما يعنيه هذا البيان من تنكب وقح، فهو يتجاهل بعمد جوهر الأزمة، وهي أن ثمة مواطن مسلم تصطف كل الشواهد إلى أن المملكة وراء اختفائه وقتله، وكان على رئيس أنصار السنة أن يطالب، على الأقل، بانتظار نتائج التحقيق ودعوة كافة الأطراف إلى التعامل مع القضية بحكمة وتروي، أو الصمت، فهو من ذهب وأثمن عند هذه المنعطفات، لكنه تقريبًا أراد أن يستثمر في الأزمة، بعد إفراغها من مضمونها، والتقرب أكثر إلى السُلطة السعودية، حتى لا ينقطع المدد.
بالنظر إلى الأزمة في كلياتها، ثمة انتهاكات لحقوق الإنسان وحروب في الجوار وهدر للثروات ودأب لإسكات الآراء المخالفة بالقوة، وهذه أفعال لا يمكن أن نبدي إعجابنا بها، حتى ولو تصرفت السعودية على نحوٍ يُذكَرنا بملاحظة المنظر السياسي الفرنسي أليكسيس دوتوكفيل من أن الولايات المتحدة الأمريكية استطاعت أن "تبيد العرق الهندي، من غير أن تنتهك مبدأً عظيمًا واحدًا من مبادئ الأخلاق في نظر العالم"، أو بالاحرى في نظر دونالد ترامب وصهره كوشنير.
على سبيل استدعاء سيرة الكعبة، كيف فات على رئيس الجماعة، وهو الغارق في الأحاديث المروية، أن "لهدم الكعبة حجرًا حجرًا أهون من قتل المسلم"، أو كما ورد في القرآن نفسه بالمعنى نفسه: "من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا"؟ كيف تجاهلت الجماعة في السودان هذه النصوص القاطعة؟ دعك من أن القتل فعل همجي وغير إنساني، ولا يمكن تبريره بأي حال، لكن الشيخ إسماعيل عثمان جعل من نفسه وجماعته نصيرًا لقتل خاشقجي بجهل أو غباء منقطع النظير.
جعل رئيس جماعة أنصار السنة في السودان، إسماعيل عثمان، من نفسه ومن جماعته نصيرًا لقتل خاشجقي بجهل أو بغباء منقطع النظير
من المهم الإشارة إلى أن جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان، وغيرها جماعات، ليسوا على مذهب ورأي واحد، لكن معظمهم يستشعر الخجل في نقد ورفض تصرفات الديوان الملكي السعودي، كأن الديوان لوح سماوي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا وحده كفيل بتجريد أي حبيس في ذلك المذهب مما يدعيه.
اقرأ/ي أيضًا: السعودية أمام سؤال خاشقجي.. تناقضات وخطوات إلى الخلف
تصريح وبيان أنصار السنة في السودان، وضع الحكومة في حرج بالغ، لأن الجماعة شريكة في السُلطة المركزية، ما اضطر الخارجية السودانية أن تعرب عن تضامنها مع السعودية إزاء ما تتعرض له من "محاولات من بعض القوى الدولية استغلال الحادثة لفرض أجندتها الخاصة"، وفقًا للبيان. وبذلك نجحت الجماعة في إدخال الحكومة بيت الطاعة الملوكي، وسلخت الوزارة من طبعها الدبلوماسي القائم على التروي والحكمة وتجنب السير في الأماكن الزلِقة.
ولعل نفس منطق الدفاع عن الحرمين الشريفين، جر الخرطوم من قبل للمشاركة في حرب اليمن بقيادة السعودية، وطغى ذلك التبرير على الخطاب السائد، بصورة ساخرة، وممعنة في التخريج الهازئ، وليت سحابة من عصر فيل أبرهة أمطرت علينا، إذ إن عبد المطلب هو رب الإبل، وللبيت رب يحميه.
صمت أنصار السنة في السودان، على قمع ابن سلمان وسقوط الأبرياء في اليمن بطائرات التحالف السعودي اليمني، هو صمت مؤذِ ومشين
ما يدفع للغرابة حقًا، أن الحركة الإسلامية في السودان، والتي استولت على الحكم منذ ثلاثة عقود، كانت على قطيعة مع الجماعة السلفية، وطرحت خطابًا مناقضًا لها تمامًا، حاولت فيه أن تستلهم روح العصر وتأصيل القيم الديمقراطية، إلا أن خطاب الإسلام السياسي بدأ يتراجع بشدة من تيه إلى تيه فكري، وسقط تحت الراية السلفية مضرجًا بالهزيمة، قبل أن يسقط في منعرج السُلطة البراغماتية.
بالطبع ليست السلفية كلها شر، ولا ينبغي النظر لها من مدخل واحد، كما حاول المفكر عزمي بشارة الإجابة على السؤال الكبير: "ما السلفية؟" وهو يحفر عميقًا لفهم قرينتها الوهابية في سياقها التاريخي وتطورها. وانتبه بشارة بالضرورة إلى أن الوهابية ما كان في إمكانها أن تنتصر في الجزيرة العربية لولا سياقها النجدي، وتحالفها القبَلي مع آل سعود، وهذا يعني انفصال زعامة الدعوة، محمد بن عبد الوهاب، عن زعامة البلاد والعباد، محمد آل سعود، خلافًا لما كان الأمر عليه في مرحلة الإسلام الأولى، حين كان النبي محمد هو صاحب الدعوة وهو الإمام في الوقت ذاته.
وإن كانت جماعة أنصار السُنة بالأساس، حاولت النأي عن الخوض في وحل الصراع السياسي، وانتبذت لنفسها مهمة واضحة، بالعودة للكتاب والسنة، ومحاربة البدع، وإنكار المحدثات، كما تقول؛ فهي اليوم لم تعد بريئة بالمرة، أو على الأقل كان عليها قبل أن تؤيد التوجه الجديد لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ومحاولاته الإصلاحية المزعومة، أن تعيد تعريف نفسها، لأن ذلك التوجه في كثير من جوانبه يُصادم منطلقاتها المُعلنة سلفًا.
كما أن صمتها، أي جماعة أنصار السنة، إزاء اعتقال العلماء ووضعهم في السجون وقمع المنابر، وسقوط المسلمين الأبرياء في حرب اليمن بطائرات التحالف السعودي الإماراتي؛ هو صمت مؤذٍ ومشين، يلحق صاحبه بالجبن والتخاذل عن تغيير المنكر بالقول واللسان.
اقرأ/ي أيضًا:
السفير السعودي بالخرطوم.. "دبلوماسية" الغزوات على الصحافة!
ناشطون سودانيون ملاحقون من السلطات السعودية.. استبداد بالوكالة