"هذا الأمر نجده في كتابات محمود عّواد عمومًا، ولكنه يتركز هنا في "أنطولوجيا اليد" بشكلٍ خاص، وهذا برأيي له أسبابه الخاصة هنا والتي عمقت من تلك التغريبية التي مورست على اللغة والمخيالية العالية التي يطفح بها النص؛ ذلك أن مادة النص تنطلق من عالم الجنون أولًا، وثانيًا ولأن محمود عّواد اعتاد أن ينظرَ إلى الأشياء التي تحيط به على أنها عروض مسرحية تقدم بشكل عفوي من قبل الآخرين، أما مع المجانين فالأمر مختلف فالمجنون عنده لا يتصرف بعفوية، فهو بحكم انفلاته من محددات العقل الذي ندعيه، يسبح في عوالم أخرى تمكنه من مشاهدة ما نعجز عنه نحن المدعين للعقلانية، ومن هنا يتماهى الكاتب مع تلك الشخصيات أشد التماهي للذهاب إلى عوالمها الخفية ليجد فيها ما لا تستوعبه اللغة"
- علي محسن باحث أكاديمي
"اليد التي قُدَّت من رمل، فهي تحوّل كل ما يأتي به النَّهر فتصهرهُ كتابة"
- روني شار
هواءٌ يسبحُ في قبضةِ يتدرَّج لونَ فراغِها مِن جِذرٍ يتشوَّفُ غموضَ حياتِه في مضغٍ رمليٍّ تتماكنُ فراغاتُه بموتِ اليدِ وهي تشقُّ دربَها في نَفَس يخطو في الجَسدِ نسيانًا للكلمةِ الأُولى، أَكانتْ يدُه تتكلمُ ولا يسـمعُها؟ أَكانتْ تأْكلُ مِن شكلِها المُمتدِّ مِن وجهِهِ إِلى وجهِهِ ولا يلمحُ صَوتها؟ لا تُقيم اليدُ في الجَـسدِ، هي هواءٌ يطوفُ صفيحُ الموتِ باسـتدعاءِ الحاسةِ من غيابِها الأثيري، يا لنشوةِ المجنونِ وهو ينثرُ يدَهُ في مَدى موتِهِ السائلِ من أَصابعِهِ الهوائيَّةِ هواءً مِن موتٍ، مِن قطرةِ دمِ حيضٍ في حائطِ الفكرِ، إِنَّها طفولتُهُ التي عبرتْ بِهِ مِن مَوتِهِ إِلى مَوته. كيف يرى المجنونُ يدَه وهي تكتبُ ما لا يُرى إِلّا بيدِه، وهي ترسمُ انتثارَهُ المِرآوي في مدى بياضِه، فيسأَلُ كُلَّ ما يلمسُه: كيفَ يرى المجنونُ يدَه وهي تكتبُ ما لا يُرى إِلّا بيدِه، وهَلْ هِيَ يَدٌ مثلما نراها نحنُ، وما الفرقَ بينَ يَدِ الـ(أَنا) ويَدِ الـ(نحن) وأَيُّهما تلتصقُ بفراغِ الجسدِ الذي هو المجنون.
*
هذه اليدُ تفكرُ أن تكتملَ
لكنها لا تريدُ أن تكتملَ
لأنَّها تُفكرُ
أن تكتملَ
لكنها لا تريدُ أن تكتملَ
لأنَّها تفكرُ أن تكتمل
هذه اليدُ
لا تكتمل
لأنَّها تُريدُ أن تكتملَ.
*
طائرٌ يحاولُ التقاطَ جُنحهِ الَّذي سقط َمنه سهوًا في تحليقٍ فِرجيلي، أم عينُ تفتِّشُ عن توأمِها في انهدامِ امبراطوريةِ اللَّون في أكوانِ بورخيس ومخيالِها المتمثِّل بانبعاثِ يدِ لورينزو كوين من بطن البحر، هل مشهدٌ لمنامات الآلهة؟
*
لا يشغلُ يدَ المجنونِ سِوى التهامِ الهواءِ بالحاسةِ وهي تلاحقُ فراغَها في الأَشياءِ، في توطيدِ علاقتِها بالكَوْنِ الحواسيِّ وليس البشريَّ، فـ(لا شيءَ يحدثُ، لا أَحدَ يجيءُ) تقولُ اليدُ مع بيكيت وهي تمتدُّ في أَحيازِها نَحوَ الآخرِ، أَو نحوَ الشيءِ الماحي لأَثرِ الآخرِ في استطرادِ النسيانِ لحكايةِ تأريخِهِ التي في النهايةِ هي تصوُّرُ مجهولٍ يكادُ ينهزمُ من أَكوانِه المُتأَهبةِ لرؤيةِ غودو المُتمثِّلِ في بلوغِ اليدِ عمقَ سؤالِها عن شكلِها وهي تشقُّ الهواءَ بحركةٍ يخالُها الجسدُ فتحَ نافذةٍ نحوَ الفراغِ، مُتشكِّلةً بذلك طائرًا من نار.
*
كيفَ وُجِدتْ يدُ الموتِ؟ يسأَلُ الجسدُ وجهَهُ الطاعنَ في غيابِ الأَثرِ بمحاذرةِ الوقوعِ في فخِّ الشبيهِ الشخصيِّ للشمسِ المنهدمةِ في شسوعِ منحدرِها الحجري، اللافظَ لكمةٍ تتهيَّبُ سقـوطَها مِنَ الفمِ إِلى أَسفلِ الوادي المُمتلئِ بالأَعشابِ السّامةِ، لكونِه يرى بأَنَّ اخضرارَ الأَوديةِ إِشارةٌ إِلى أَنَّ مقامَ اليدِ في جسدِ المجنونِ هي نافذةٌ مُلهمةٌ للسطوعِ، أَمّا لدينا نحن مُدَّعو العقلِ، فهي بابٌ لثلاجةٍ عاطلةٍ، وشتانَ بينَ نافذةٍ وبابٍ، فالأَخيرُ للاستعمالِ والأُولى للحبِّ كما نبَّهَ لذلك الشاعرُ (المهدي أخريف) في واحدٍ من نصوصِه.
*
ما الذي لمسَهُ جيلُ دولوز بيدِه قُبيلَ أَن ينتحرَ، وفي أَيَّةِ حركـةٍ تابعتْ يدُه انقضاضَها على حوافِ النافذةِ في ظهيرةٍ شهدتْ احتشادَ العدمِ في قفزةِ الحبِّ تلك الحاملةِ لبياضِ الزمنِ، فمِـن دونِ التعرُّفِ على آخرِ ما لمستْ يدُه من أَعضاءٍ وأَشياءٍ يصعبُ تشخيصَ سببِ إعجابِه في الشمـسِ الأَمرُ الذي أَدّى بِه إِلى الانتحارِ، أَكان يرى في الشمسِ يدًا لا مرئيَّةً قد لوَّحتْ لهُ مِن أَعالي الفكرةِ؟ وهلْ ثمةَ اختلافٍ بين يدِ الشاعرِ والفيلسوفِ؟ وأَينَ تنامُ كلٌّ منهما في انصرافِ الإِله إِلى عدمِه؟، الشعرُ فرجُ اللامرئي، إِذ هو في حاجةٍ ليدٍ مباركةٍ بفعلٍ أُوديبي تفترسُ الكلمةَ بتشطيبِ الحدودِ بين العضوِ والحاسة.
*
كيف تقتلُ يدًا؟ سؤالٌ لا ينفكُّ المجنونُ يطرحُه، وهو يرصدُ عيـنَ الموتى تخرجُ من أَرخبيلِ يدِه خيانةً جديدةً لنظرةٍ لا يزالُ غودو يطاردُها في الموتى بوصفِهم مسطبةَ انتظارٍ يجلسُ فيـها الإله طوالَ الوقتِ، مترقبًا مجيءَ اسمِه المائة، إِنَّها لقطةٌ مشابهةٌ لخروجِ النَّملِ من مخطوطاتهِ الرمليَّةِ، وفي زمنٍ مستقطعٍ يهرولُ بينَ جرحِ الحاسةِ والأَشياءِ، تنغمرُ اليدُ في تلك الأَشياءِ باحثةً عن عداوتِها، مادحةً عنفَها الحواسي تجاهَ ما لا يُرى إِلّا بالحركةِ، لكنَّها بعدَ أَن تأْكلَ فضاءَ تحديقةِ الفراغِ بها، بقبضةِ مرحٍ ترابي، تستفهمُ حركتُها :عن أَيهما أَقربَ كشكلٍ ليدِ المجنونِ، يدُ المُستمني أَم يدُ الميِّت؟
*
أَينَ اختبأَتْ يدُ الإله بعدما
نفخَ الروحَ بآدمَ؟
أَين نامتْ يدُ قابيلَ بعد تقطيعِها للجثَّةِ؟
أَينَ ذهبتْ يدُ الشاعرِ عندما أَكملَ كتابةَ قصيدِهِ؟
ما لونُ يدِ كافكا قُبيْلَ تحوُّلِهِ إِلى صرصارٍ؟
أَكانت لأوديبَ يدٌ أَم ثمةَ من أَعانَه على فقْأِ عينيهِ
وما الحركةُ الأَخيرةُ ليدِهِ في جسدِ جوكاستا
كيف استطاعَ
برجمان أَن يلعبَ الشطرنج مع الموتِ
وما ردَّةُ فعلِ يدِهِ آنذاكَ
ما النكتةُ التي تبادلَها دوشامب مع يدِه
عندما أَتى بالمبولةِ
ما الذي قاله هاينر مولر ليدِه عندما كتبِ "هاملت ماكينة"
أَهي كتابةُ اليدِ عن اليدِ
يُقالُ إِنَّ هاملت
هو منْ سرقَ يدَ شكسبير عندَ موتِه
بذريعةِ
حاجتِه الدائمةِ لاستشارتِها
بعدَ أَنْ قرأْنا "في انتظارِ غودو"
هل سأَل أَحدٌ نفسَه: أَين تعيشُ يدُ صموئيل بيكيت الآن
كيف تتحرَّكُ يدُ صموئيل بيكيت الآن
وما الذي تُمسِكُه يدُ صموئيل بيكيت الآن
وهل لا تزالُ تنتظرُ
غودو في
جيبِ موسى الكليم
كيف تفاهمتْ يدُه معَهُ عندما علِمتْ بأَنَّ غودو لم يجيء
ما الحديثُ الذي كان يدورُ بينَ عكازَةِ رامبو ويدِه
وهل سافرتْ معه يدُه إِلى الحبشةِ
وماذا كان رأْيُها
عندما اعتزَلَ كتابةَ الشعرِ
ما نسبةُ الشبهِ بينَ صلعةِ ميشيل فوكو ويدِه
ما حركةُ يدِ فان كوخ في الهواءِ
وأَيُّ الأَصابع
ضحكَ فيها أَكثر عندما مَلَص أُذنَه
وهل كانتْ تلكَ
الحادثة عتبةً لحربِ الحواسِ
ماذا عن يدِ جيل دولوز
ماذا تأْكلُ الآنَ
وكيف تلقتْ خبرِ انتحارِه
وما علاقتُها بيدِ صادق هدايت
وهل كتبَ (البومةُ العمياءُ) بيدٍ مُتَّصلةٍ أْم مفصولةٍ عن جسدِه
ما هيئَةُ يدِ دريدا
وما نسبةُ مساهمتِها في نظريَّةِ التفكيكِ
هل تنتقلُ اليدُ
في الكتابةِ إِلى الرأْسِ
أَم ينزلُ الرأْسُ للتشاورِ مع اليدِ
في أَيّ متحفٍ
استقرتْ يدُ اللهِ
بَعدَ أَنْ
أَكملَ خلقَ الوجودِ.