لديك حساب على "فايسبوك"، وحساب على "تويتر"، وعلى الأرجح "انستغرام" أيضًا. على الأرجح لديك حساب على جميع "المنصات"، حيث يمكنك أن "تُطلِق" ما شئت من آراء. وكل هذا "مجاني". أنت غالبًا لا تسأل نفسك حتى، لماذا كل شيء مجاني، ولماذا يحبّك العالم إلى هذه الدرجة، لكي يمنحك هذه المساحة، ويجعلك جزءًا من "فضاء عام" كان محتلًا ومهيمنًا عليه قبلك، ثم أصبحت فجأة جزءًا منه. وهذا يجعلك تعتقد أنك تمتلك قدرًا كبيرًا مما تحتاج إليه في هذا العالم، من بين جملة أشياء أخرى كثيرة. قد تحلم بالتحول إلى "انفلونسر"، أي شخص مؤثر، وأنك قادر على تغيير العالم، والعلاقات في العالم. وهذا يبدو محقًا ومعقولًا وقابلًا للحدوث. ستدافع عن الوباء بالتوعية عبر الإنترنت. لكن الإصابات لن تحدث إلا في الواقع.
على أبواب هذه المحال، وأمام المستشفيات، في مكان ما، يقف شبح ميشال فوكو ويتأمل كل شيء. فوكو، تقريبًا، هو المفكر الوحيد في زمنه، الذي تجاوز زمنه، وتجاوز التحليلات الماركسية الكلاسيكية، بذهابه إلى تحليل جرئيات صغيرة في فيزياء القوة
المنزل ضيق. وسائل التواصل الاجتماعي غير كافية، رغم أنها كانت كذلك قبل أسبوعين. لا تكفي. الحياة في الخارج، في مكان آخر. المنزل يبدو كالسجن. حسنًا، ماذا عن العالم؟
اقرأ/ي أيضًا: ميشيل فوكو.. المنظور الفلسفي للسلطة
هذا ليس مقالًا ضدّ وسائل التواصل الاجتماعي بأي شكل من الأشكال. وليس حتى نابعًا من فكرة أومبرتو ايكو عن هذه الوسائل، وإسهامها في ابتذال الرأي العام، رغم أنها فكرة جدية. أول ما يخطر في بالك، وأنت تقرأ هذه السطور، سيكون الاستجابة، على طريقة الخلايا المناعية. ستبدأ الدفاع ضدّ حقّك، بالحرّية، وقول ما تشاء، ساعة تشاء. وأنت محق في ذلك، والاستجابة طبيعية. ليس بالضرورة أن نحدد أو أن نبحث الآن إلى أي درجة هذه الاستجابة هي استجابة أيديولوجية، أكثر من كونها استجابة ضدّ الأيديولوجيا. لكن دعنا نتفق أنك بوجودك على هذه "المنصات"، لست جزءًا من فضاء عام. أنت جزء من فضاء، ضمن الفضاء العام. وأن العلاقة بين الحرية كقيمة وجودية، وحرية الاستهلاك، هي علاقة شائكة، وأن الخلط بين الأمرين ليس أمرًا صحيًا.
من بين تأثيراته الكثيرة، أعاد فيروس كورونا التأكيد، على العلاقة بين الدولة والفضاء العام، وبين الحقيقة والدولة، والسُلطة وحدود تأثيراتها على الإنسان وعلى الجماعة، من دون إفراط في الأوهام.
مدفوعين بخوفهم من المستقبل، الناس وهم ينهشون المولات ومحال السوبرماركت، على الأرجح، ليس لديهم أي وقت للعودة إلى ماركوزه للتصالح معه، والإعلان عن أن الأبعاد كانت وهمًا. لطالما كانوا ببعدٍ واحد. والحرية في الاستهلاك، ليست حرية، بل تبقى استهلاكًا يأخذ أشكالًا عديدة، منها الحرية. على أبواب هذه المحال، وأمام المستشفيات، في مكان ما، يقف شبح ميشال فوكو ويتأمل كل شيء. فوكو، تقريبًا، هو المفكر الوحيد في زمنه، الذي تجاوز زمنه، وتجاوز التحليلات الماركسية الكلاسيكية، بذهابه إلى تحليل جرئيات صغيرة في فيزياء القوة (microphysique du pouvoir)، آخذًا بالاعتبار مرحلتين أساسيتين: التشكل وإعادة الإنتاج، وذلك لفهم العلاقات السوسيولوجية للسُلطة، ضمن عملية متواصلة تؤدي إلى ظهور مواطن سلطوية جديدة. وهي، للمناسبة، تعمل بطريقة مشابهة لعمل الفيروسات. بيّنت الاستجابة الأوروبية للتعامل مع كورونا، أن السُلطة ليست إطارًا ثابتًا يمكن الإشارة إلى مركزه، بل إنها تمتد في سلسلة من العلاقات، ولا يمكن اختصارها في الشكل السياسي، وخاصةً الدولة. ليس فقط في ديناميكاتها وعلاقتها الاجتماعية الظاهرة، بل في كل مكان، تنتشر كالفيروسات وتستوطن، تمامًا كما قال عالم الاجتماع الإشكالي.
وسائل الإعلام الجماهيرية والعادية، تمتلك سُلطة كبيرة، فاقت سُلطة "الدولة الأوروبية"، التي لم تستطع المحافظة على ميلها الخسيس بحماية "اقتصاد السوق" في البداية، على التعامل مع كورونا بجدية منذ بداية. الأطباء، والمؤسسات الطبية، لديهم سُلطة إجرائية واضحة، بتحديد حجم المسألة وحدود خطورتها. طبعًا الحديث عن التضحية والتضحيات لا علاقة له بجزئية السُلطة المقصودة. المؤسسة العسكرية، من ضمن علاقتها مع الإطار السياسي للدولة، وأحيانًا من خارج علاقتها مع هذا الإطار، طورت حضورًا واضحًا في مشهد السُلطة. وقد يكون إغلاق الحدود في غالبية الدول، اعتراف واضح عن أن العولمة السياسية ليست سوى وهم كبير، يلهث خلف عولمة اقتصادية، يدها أطول بكثير من أي محددات السُلطة.
هناك سيل من العلاقات التي يمكن تحديدها، وسيل آخر من العلاقات المبهمة، التي تتفشى مثل كورونا، والمفارقة، يُظهرها الفيروس في جسد المجتمع، بعد تفشيها في أجساد أفراده. حسب المنطق الفوكوي نفسه، لدينا أشكال متعددة وقابلة للتناسل للسُلطة. ورغم أن فوكو لم يكن من محبّى التوتاليتاريا، بطبيعة الحال، إلا أن الاستفادة من عمله لتفسير الإرباك الذي يشهده العالم للتعامل مع فيروس كورونا، يفسر حدود القوة وصلاحيات استخدامها على نحو ظاهر، لطالما تعامى عنه مقدسو الباراديغم المهيمن. اليوم، وأمام هذا الوباء، هناك محطات كثيرة للمواجهة مع السُلطة والتسلط، بحيث لا يمكن اختزال هذه المواجهة مع السُلطة بمقارعة جهاز واحد، هو الدولة، سواء اعتبرنا هذا الجهاز أيديولوجيًا أم لم نعتبره كذلك.
اقرأ/ي أيضًا: شبح ميشيل فوكو في 2018.. رباعية ختام لـ"تاريخ الجنسانية"
هذا التعارض مع معظم النظريات السياسية الحديثة لا يلغي تلك الجاذبية الرهيبة للحفر والحفريات في المعرفة، كما طبقها عالم الاجتماع الفرنسي. ورغم ميل العالم إلى افتراض أشكال أكثر واقعية للسلطة، أصرّ فوكو على أن علاقات القوة لا تعترف بالعقد الاجتماعي، وتاليًا بشروطه ومقوماته، إلا ضمن مواقع محددة، فهذه العلاقات تمتد خارج السياسة، وتصل إلى أي شيء آخر. لم يخف المعترضون على هذه الأفكار، أو جزء كبير منهم، انبهارهم بأصالتها، إلا أنهم كانوا أكثر ميلًا للتصديق بأن الجهاز السياسي هو المنظم الأساسي لاحتكار السُلطة ولحدود توزيعها في المجتمع، وقد كان الخلاف على القوة خلافًا محصورًا بالسياسة، وما زال حتى اليوم.
مدفوعين بخوفهم من المستقبل، الناس وهم ينهشون المولات ومحال السوبرماركت، على الأرجح، ليس لديهم أي وقت للعودة إلى ماركوزه للتصالح معه، والإعلان عن أن الأبعاد كانت وهمًا
إذا أراد البشر تجاهل العيادات والسجون، فلم يعد بإمكانهم تجاهل شكل العالم اليوم، وطريقة تعامله مع الوباء. أكثر من أي وقت، سنعاين عن قرب علاقات القوة بقدر أقل من التمويه. وربما سيكون أسهل من قبل، تمييز معاني كانت قبل فوكو وحتى بعده، غير قابلة للتمييز من دون تأطير أيديولوجي. ولا نتحدث عن المراقبة والعقاب، فهذا الشكل في التعامل مع انتشار الوباء هو الشكل الظاهر، وليس اكتشافًا أن يكون حاضرًا. نتحدث عن أكبر محاولة في التاريخ المعاصر للترويض، عن تجهيز الإنسان لحياته الرقمية الجديدة.
اقرأ/ي أيضًا: