تتبدى سلطة الدولة وسيادتها على أرضها، على ما يرى بيير بورديو، أكثر ما تتبدى في قدرتها على تحديد أيام العطل والأعياد الرسمية. وفي انضباط المواطنين وخضوعهم لإشاراتها ورموزها وتعليماتها في الأمكنة العامة، ابتداء من تحديد جهة قيادة السيارة، يمينًا أو يسارًا، إلى الالتزام بما تمليه علينا إشارات الطرقات، فالامتناع عن الوقوف في الأماكن التي يحظر فيها الوقوف.
ما زالت الدولة السيدة تطلق الرموز وتنظم المسالك، وما زال المواطنون يخضعون لموجباتها ويندرجون في المندرجات التي تفرضها عليهم
هذه الانضباطات تتصل جميعها بكونها ضرورية للمواطن نفسه، فمن دون الالتزام بها، لا يعود قضاء الحوائج ممكنا، ويصبح الخارج، حلبة صراع لا تنتهي فصولها المميتة أحيانًا والمجهدة في كل وقت. نلتزم بإشارات السير لأن الالتزام بها يجنبنا حوادث قد تكون مميتة. وعليه سواء كنت معارضا لسلطة الدولة، أو متحدرًا من عرق يختلف عن العرق الذي يسود بين مواطنيها، فأنت مجبر على الخضوع لهذه الإشارات والرموز، لئلا تسحقك الجموع الغفلة وتصرفك عن غايتك ومبتغاك.
اقرأ/ي أيضًا: نشيد العولمة
ما زالت الدولة السيدة تطلق هذه الرموز وتنظم هذه المسالك، وما زال المواطنون يخضعون لموجباتها ويندرجون في المندرجات التي تفرضها عليهم. لكنهم ولزمن قصير خلا، كانوا أحرارًا في تنظيم أحيازهم الخاصة. وكانوا يستطيعون أن يرتبوا أوضاعهم فيها وطرق عيشهم، على النحو الذي يريحهم، إذا لم يكن في نحوهم هذا ما يزعج الجيران في أحيازهم الخاصة أيضًا.
لكن طارئًا طرأ على الحيز الخاص جعل أمر التحكم به غير متيسر دائمًا لشاغله. وبات ترتيب العيش فيه مرهونًا بموافقة سلطات مستجدة، تطمح وتغذ سيرها يومًا بعد يوم للسيطرة على كل نأمة تصدر عن هذه الأحياز. ففي حين كان الفرد في العقود السابقة مضطرًا للخضوع إلى سلطات طبية تملي عليه ساعة نومه وساعة استيقاظه، لقاء وعده بعيش حياة صحية خالية من الأمراض، مدت هذه السلطة صولجانها نحو طعامه، فلم تعد الحمية شأنًا خاصًا بالمرضى، يجدر بهم اتباعها ما أن يصيبهم مرض ما. بل أصبحت شأنًا خاصًا بالأصحاء، وعليهم جميعًا، الأصحاء تحديدًا، أن يلتزموا بموجباتها وأن يثبتوا عيانًا وجهارًا أنهم ملتزمون بهذه الموجبات. بل إن المجتمعات الحديثة أصبحت تنبذ من تظهر عليه علامات السمنة والترهل، وتقصيه إلى موقع أدنى من مواقع الآخرين الذين يظهرون التزامهم بالحمية وممارسة التمارين بعرض أجسامهم الرشيقة.
إلى هنا، قد لا ينجح المرء في إبداء اعتراض على هذه السلطة. فهذه سلطة مثلها مثل سلطة الدولة تهتم بالمصلحة العامة، ومن دون الالتزام بما تفرضه علينا، تتعطل آلة المجتمع أو تصاب بأعطاب لا قبل للفرد بمعالجتها. لكن السلطات المستجدة لا تكتفي بنبذ المرضى وإدانتهم، بل تسعى جهدها لاحتلال ما تبقى من خصوصيات يمكن وصفها بهامش حرياتنا. فالسلطات المستجدة تقرر لنا سلفًا إذا كان يجدر بنا أن نرتدي ثيابًا ثقيلة أو خفيفة، بحسب ما تأمرنا به مذيعات النشرة الجوية، وتدعونا إلى اجتناب هذه الطريق وسلوك تلك، بناء على معلومات عن حوادث سير وقعت على هذه الطريق أو تلك، أو أعمال صيانة تقوم بها الجهات المختصة في طريق أخرى. وعليه سرعان ما يكوّن المواطنون الملتزمون بمتابعة أخبار الطقس وأشغال الطرقات والحوادث الأمنية، خريطة عامة للمدن التي يعيشون فيها تحدد لهم المعابر الآمنة والمناطق والأحياء التي يمكن عبورها من دون مواجهة أخطار، وتحذف أحياء ومناطق أخرى من مداركهم، وتجعلها غير مرئية بالكامل.
اليوم تستطيع خرائط غوغل أن تحذف من مداركنا أجزاء كبرى من المدينة التي نعيش فيها، لأن هذه الأجزاء تشهد غالبًا زحمة سير خانقة، أو حوادث أمنية متواترة، أو قد تكون مرتعًا لرجال العصابات، أو لسبب أبسط بكثير، ويتعلق بكون هذه المناطق لا توفر للزائرين مواقف مجانية للسيارات، أو إمكانية تعبئة بطارية سيارتك الكهربائية.
يكوّن المواطنون الملتزمون بمتابعة أخبار الطقس وأشغال الطرقات والحوادث الأمنية خريطة عامة للمدن التي يعيشون فيها تحدد لهم المعابر الآمنة
ولا تتوقف السلطات المستجدة عند هذا الحد، بل باتت تقترح علينا الحذاء الذي يجدر بنا أن نشتريه، اعتمادًا على نمط عيشنا وانسجامًا مع مواردنا المالية، وأي مقهى يجدر بنا المرور عليه، اعتمادًا على تصويت الزبائن الذين سبقونا إليه، وأي مطعم يجدر بنا ألا نخاف تناول الطعام فيه. وتلعب سلاسل المطاعم والمقاهي المعولمة والمنتشرة في أرجاء الكرة الأرضية دورًا أبعد بكثير من هذه الاقتراحات، ذلك أن أحد مصادر قوتها وقدرتها على الانتشار يتأتى من واقع أنها معروفة لنا، طعمًا وجوًا وسعرًا، وهي تاليًا تشكل خيارنا الأول والأرجح في أي منطقة نزورها للمرة الأولى. وهذا الانتشار سرعان ما يمكّنها من احتكار الطعم والمذاق وتعريفه. فالمداومة على شرب القهوة في مقاهي ستاربكس مثلًا تجعل كل طعم للقهوة يختلف عن طعم قهوة ستاربكس غير مستساغ وغير مستحب. هذا وقد يكون الطعم غير المستساغ هو الأصل في الطعم والأنسب للاستهلاك.
اقرأ/ي أيضًا: الإنسان المعاصر ومآلات الفزع
اليوم، لم نعد نستطيع أن نتبع أهواءنا. الجمال له معايير محددة وضعتها سلطات مستجدة، والطعام الشهي له معايير محددة هو الآخر من صنع سلطات أخرى، واختيار ما نرتديه يخضع لسلطات أخرى. والقائمة تطول إلى الحد الذي أصبحت معه حواسنا عاجزة عن التمييز. ولم يعد لها من وظيفة سوى تذكر المألوف.
اقرأ/ي أيضًا: