ما كان متوقعًا منذ شهور حدث. اجتاحت القوات الروسية أوكرانيا على الرغم من كل التهديدات الغربية بفرض عقوبات شديدة على روسيا في حال تنفيذ مخططاتها بالغزو. ولعل المتابع لمسارات الأحداث وتفاصيلها يستشف مدى التخبط الغربي في التعامل مع الملف الأوكراني، وهو ما أثبته اليوم الأول من الغزو، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل: هل تُركت أوكرانيا فعليًا لوحدها في مواجهة روسيا؟ هل تم توريط أوكرانيا في مواجهة غير متكافئة مع روسيا؟
هل تركت أوكرانيا فعليًا لوحدها في مواجهة روسيا؟ هل تم توريط أوكرانيا في مواجهة غير متكافئة مع روسيا؟
اقرأ/ي أيضًا: عالمان يتجاوران تحت شمس واحدة
خطاب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي فجرًا حملَ الكثير من المرارة، إذ قال "كييف تُركت وحدها في مواجهة الجيش الروسي"، وأكد على هذه النقطة: "لقد تركنا وحدنا للدفاع عن بلدنا، مَن هو مستعدّ للقتال معنا؟ لا أرى أحدًا".
أسوأ السيناريوهات المُتخيلة حدث منذ اليوم الأول للاجتياح. بالغ الغرب في اعتقاده أن حزمة العقوبات التي فرضها، أو يهدد بفرضها على موسكو، ستكون رادعًا للجم خطوات روسيا عن تنفيذ مخططها. لكن هل من المعقول أن تكون قراءة المشهد بكل هذا القصور ليبدو ما حدث وكأنه أمر مفاجئ؟ هل كان الغرب يفتقد إلى الخيارات والقدرة على المبادرة ومواجهة هذا التهديد بوسائل رادعة؟
لا شك في أن الغرب يعي أن احتمال الغزو هو الخيار الأقرب للتنفيذ، لأن التقارير الاستخباراتية في الأشهر الأخيرة كانت تقول ذلك، لكن هناك حسابات لا تخرج للعلن، والمتابع لمسار الأحداث يستطيع أن يلتقط أن خيار تورط الحلف الأطلسي في مواجهة العسكرية مع روسيا غير مطروح بتاتًا. وهو ما بينته التصريحات الغربية باستبعاد تزويد أوكرانيا بأسلحة فتاكة واستراتيجية تقوم بردع روسيا. فقد رفضت الحكومة الألمانية الطلبات الأوكرانية بالحصول على أسلحة دفاعية هي بأمسّ الحاجة إليها، وبرّرت ألمانيا ذلك بأنها "لا ترسل أسلحة فتاكة إلى مناطق الأزمات والنزاعات، وهي لا تريد تأجيج الموقف". في حين ماطلت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في تحديث منظومة الصواريخ والدفاع الجوي الأوكرانية بصواريخ متطورة، بحجة أن ذلك سيفاقم من الأزمة، ويزيد من الخطوات العدوانية من قبل روسيا.
ماطلت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في تحديث منظومة الصواريخ والدفاع الجوي الأوكرانية بصواريخ متطورة، بحجة أن ذلك سيفاقم من الأزمة
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية والدول غربية منحت أوكرانيا كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة والمعدات العسكرية، على مدار الأشهر الماضية، لكن لم ذلك لم يكن كافيًا لردع هجوم مدمر ها هو يطيح بالبلد أو يكاد.
اقرأ/ي أيضًا: ملف أوكرانيا: تحرّكات اللحظة الأخيرة
أظهر الاجتياح الروسي لأوكرانيا مأزق الغرب وضعفه في مواجهة روسيا، حيث ظل لأشهر عاجزًا عن أي تحرك فعلي، ما عدا التهديد بفرض عقوبات اقتصادية. هل اعتقد الغرب أن تلك الإجراءات تمتلك فرصة أفضل لتغيير حسابات روسيا، بدلًا من إرسال أسلحة فتاكة واستراتيجية قد تطيل أمد المعركة، لكنها في النهاية لن تغير من النتيجة النهائية للحرب؟
يقامر الغرب بتلك الخيارات ويضع نفسه أمام تحديات كبيرة، تحديدًا فيما يخص الأمن الأوروبي، وهو ما عبرت عنه رئيسة وزراء إستونيا كاجا كالاس حين قالت: "يعتبر الاجتياح الروسي لأوكرانيا تهديدًا لأوروبا بأكملها".
التطورات تتسارع وتضع أمام مشهدًا جديدًا، فبعدما كانت أوكرانيا رأس الحربة في تهديد المصالح الروسية من خلال محاولتها الانضمام لحلف الشمال الأطلسي انقلبت المعادلة رأسًا على عقب، فالاحتمالات المطروحة كلها تنبئ بمرحلة صعبة وتداعيات خطيرة، إن كان باحتلال أوكرانيا وتنصيب حكومة موالية، أو بتقسيمها عموديًا وضم الجزء الشرقي لها، أو وقوعها في مستنقع حرب أهلية طويلة الأمد.
يبدو أن بوتين يمتلك حيزًا كبيرًا من المناورة، وأنه قارئ لمفاتيح اللعبة، ولم تكن الخطوات التي أقدم عليها منذ بداية الأزمة تنم عن موقف متخبط، بل على العكس هو كان ذاهب في مسار يرسم ملامحه خطوة خطوة، ويعي إلى أن يريد أن يصل.
في خطابه الأخير حول الاعتراف باستقلال الجمهوريتين الانفصاليتين عن أوكرانيا كشف عن موقف لافت وجب التوقف عنده، حين وصف انهيار الاتحاد السوفييتي على أنه أخطر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين. وخص أوكرانيا بحديث مستفيض وأشار إلى أنها لم تكن أبدًا دولة مستقلة إلا في نهاية القرن الماضي، وأن الروس والأوكرانيين شعب واحد، وخطأ الزعيم البلشفي فلاديمير لينين أنه منح أوكرانيا إحساسًا بالدولة عبر السماح لها بالاستقلال الذاتي داخل الاتحاد السوفييتي، هذا بالإضافة لإرساله رسائل قاسية لدول الاتحاد السوفييتي سابقًا الخارجية عن هيمنة النفوذ الروسي.
هل الحرب لأهداف أمنية؟ أم تتعلق بحلم بوتين بإعادة إحياء الإمبراطورية الروسية على أنقاض دول الاتحاد السوفييتي سابقًا؟
هنا يتبادر إلى الذهن سؤال: هل كان الاجتياح الروسي لأوكرانيا بسبب تدبير قادة أوكرانيا لمشروع مناهض لروسيا، وما يمثله ذلك من تهديد، جرّاء التوسع السريع لحلف شمال الأطلسي منذ أواخر التسعينيات في مناطق دول دولة المنظومة الاشتراكية سابقًا؟ أم أن الأمر أبعد من ذلك، وأنه يتعلق بحلم بوتين بإعادة إحياء الإمبراطورية الروسية على أنقاض دول الاتحاد السوفييتي سابقًا؟
اقرأ/ي أيضًا: نحن الذين نموت في كل حرب
قد يكون الأمر سابقًا لأوانه لكن حجم التخبط الذي رافق الأزمة الأوكرانية في الأشهر الأخيرة يشير إلى تباين في المواقف الغربية والهروب إلى الأمام، وآخرها ما صرّح به الرئيس الأمريكي من أنهم لم يخرجوا روسيا من نظام سويفت، لأن بعض الدول الأوروبية لا ترغب بهذا الأمر، بالمقابل هيمنة منطق القوة والتوسع على فكر بوتين، وهو ما يدفع حتمًا إلى أن لا تكون أوكرانيا ساحة مواجهة أخيرة، إلا إذا حدثت معجزة ستقلب المشهد برمته، وإلى ذلك الحين سيظل سمعنا وبصرنا مملوءًا بصور وأصوات القصف والخراب، ومشاهد هروب المدنيين المذعورين، الذين لن يجدوا في محنتهم سوى حديث مثل رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون: "نحن معكم، نصلي لكم ولعائلاتكم".
اقرأ/ي أيضًا: