أكثر الذكريات وضوحاً لدي من صِغري عن السفر هي دعاؤه، تحديداً كلمة "وعثاء" التي كنتُ أعي لثقلها على لساني أنها تعبّر عن شيء سيئ دون أن أعرف معناها بدقّة وقتها، وكأنها تجمعُ بين كلمات وعورة وعناء وغثيان معاً. ارتبط السفر حينها بالمشقّة مهما كانت الطرق تُطوى سريعاً. ذاك المشوار الذي يتطلب ساعتين بالسيارة نقوم به في العطلة الصيفية لمرة واحدة حصراً أصبح روتيناً يومياً خلال سنوات الدراسة الجامعية، من وسط الأردن إلى شمالها. كان ذلك قبل وسائل التواصل الاجتماعي وانخفاض تكلفة الطيران، وقبل الانخراط بمهن تتطلب السفر خارج البلاد، وقبل الاغتراب الذي يفرض عليّ الكثير من الحركة بين البلدان، لأختبر السفر كتجربة ذاتية، وأختبره وفق ما يُنشر ويُحكى عنه على مواقع التواصل الاجتماعي.
في أغلب الأحيان التي أشاهد بها منشورات عن السفر ينتابني الإحباط، لماذا لم تكن رحلاتي مليئة بهذا القدر من الحماس والبهجة!
في أغلب الأحيان التي أشاهد بها منشورات عن السفر ينتابني الإحباط، لماذا لم تكن رحلاتي مليئة بهذا القدر من الحماس والبهجة! هل تكمن المشكلة في طريقتي بالسفر أم أن بالأمر خدعة؟ ومتى تربّع السفر على قمّة التجارب الإنسانية الرائعة لأولئك الذين أتابعهم؟
في الحقيقة، بعض المدن الجديدة جميلة ومثيرة للاهتمام، أو هي كذلك ما دامت التجربة جديدة ومؤقتة، وما إن يبدأ الشخص بالتأقلم مع المكان وتبدأ العين بالاعتياد على المشهد، حتى تخفت الدهشة وتعود لمستوياتها العادية. سيستمر بالطبع رؤية الجمال بالمشاهد العامة، لكن دون ذلك الانبهار الطفولي الصادم. ستظل المذاقات الجديدة أيضاً ممتعة ولذيذة، لكن، هل هذا البحث عن الأصالة حقيقي أم مبالغ فيه أو حتّى مزيف! تصفّح أسماء المطاعم في أي عاصمة تجد فيها أغلب ما تبحث عنه من مطاعم أجنبية، وبذات القدر من الجودة وأصالة المذاق تماماً كما في البلد الأصلي، لماذا هذا الانجلاق إذاً؟
حتى ما يسمّونه متعة اكتشاف الأشياء الجديدة، كلّه مُكتشف قبلك وتتضمنه نصائح السفر المنشورة والمتداولة مسبقاً. في المدن لا يوجد أشخاص في شدّة الغرابة، ولا أحداث عجيبة قادمة من خارج عالم البشر، كل شيء يحصل ضمن سياق المُتوقع، وربّما رأيت ما ستراه في فيلم وثائقي سابقاً. كما أن التجربة تُبنى ولا تُستكشف، يبني المسافر روايته الخاصة عن الرحلة ويعتبر أنه "اكتشف" بنفسه شيئًا، فيذهب ويشاركنا بلحظات معينة من تجربته، لحظات مكثّفة جداً من السعادة والجمال وادّعاء المغامرة الفريدة والحرّة، وهي محض ادعاءات بالضرورة في أغلب الأحيان، إذ كثيرًا ما نكتشف أنه لم تكن ثمة خطورة فعلية للأنشطة المرافقة للسفر، وأنه لا أحد في واقع الأمر على استعداد لأن يجرب السباحة على شاطئ مليء بأسماك القرش دون أن يضمن حمايته بالكامل، أو السير في غابة لا يصلها أحد على الإطلاق بدون معرفة طريق العودة.
بفضل التكنولوجيا، بات نادراً أن يجرّب المسافر مطعماً بالصدفة، فكل مطعم قبل أن ندخل عتبته يمر في عملية تدقيق في تصنيفه على جوجل وتعليقات الزبائن السابقين حول خدمته. ونادراً ما يصل أحدهم لزقاق ما بالصدفة المطلقة، إذ لا بد وأن يتبع مسارات آمنة ومؤنسة وموصى بها مسبقاً. ونادراً ما يتعرّف المسافر على حياة الناس الفعلية، فهو غير معني بمشاكلهم ولا همومهم، وهو على سفر للاستفادة من المتع التي يوفرها المكان وليس للانخراط في كل جوانبه، القاسي منها والجميل. وهذا كله ليس وليد الصدفة، فهذه صنعة منسّقة بهذا الشكل لغايات الربح والفائدة مقابل الترفيه. ليس ثمة اليوم مسافر في رحلة كتلك التي قام بها ذلك الطالب الأرجنتيني عام 1952 على متن دراجة نارية بين أرجاء أمريكا اللاتينية، ليلتقي الناس ويطّلع على همومهم وظروف حياتهم عن قرب، فحوّلته تلك الرحلة من المرفّه أرنستو إلى الثائر تشي جيفارا.
يكفي إعادة النظر في الصور التي ينشرها الناس عن السفر لمعرفة مدى وهميّة اللحظة التي يحاولون إقناعنا بها، لا بد أن يظهروا في المشهد ليكونوا هم محور الرحلة، مع ابتسامة عريضة جداً وملامح سعادة شديدة البروز، بملابس نظيفة ومرتّبة، مع المكياج أحياناً، والكثير من الألوان المُبهجة والمباني الأنيقة والوجبات الفارهة، وخلفيات مُبهرة للأماكن تُظهر أفضل ما فيها، لا مكان للأشياء العادية في الصور وتغيب الأماكن البسيطة. تبدو تكتيكات النشر عن السفر كأنها محاولة لتخليق مشهد سينمائي يلعب فيه المسافر دور البطل أكثر من كونها مشاركة للذكريات والتجارب مع الأصدقاء.
النظر إلى لوحة في متحف بدولة أخرى لا يعني بالضرورة أنك حصلت على قيمة إنسانية أعلى من أن تنظر إليها في كتاب عن اللوحات الفنية، لكن شعورك بأنك جزء من طقس عالمي يؤديه مئات الآلاف سنوياً يمنحك تلك النشوة التي تعتقد عندها أنك أنجزتَ شيئاً عظيماً، دون حتى محاولة معرفة سبب الحماس تجاه رؤية تلك اللوحة تحديداً، وما تحمله من معان لا توجد إلا فيها، لكن المهم والأساسي ليس رؤية اللوحة، بل توثيق اللحظة، التقاط الصورة بجانب اللوحة ونشرها لإثبات أنك فعلت ما يتوقّع منك فعله، والانضمام أخيرًا لنادي مُشاهدي اللوحة.
مروّجو السفر على وسائل التواصل الاجتماعي، والذين يجتهدون لإخفاء آثار الأموال التي يجمعونها من شركات السياحة والطيران والجهات الرسمية التي ترغب بالدعاية لمدنها، وشركات الألبسة الرياضية ومعدات الحماية وغيرها، هؤلاء لأجل المال قتلوا ما في السفر من حاجة إنسانية لتلبية الفضول البشري ونهم المعرفة من خلال التجربة، وتَبِعهم مجاناً في هذه الحفلة من يريد أن يرسم لنا عن وجوده قصّة مختلفة، من يريد أن يثبت لنفسه أنه قادر على عيش ذات النمط الحياتي، هؤلاء لو طلبت منهم أن يعطوك ملخصًا من فقرتين عن الرحلات التي يقومون بها من ناحية داخلية لن يتمكنوا من ذلك، سوف يكتفون بعرض الصور العامة وترديد بعض الكلمات، ليس لعدم القدرة على التعبير وإنما لأن هدف الرحلة من الأساس مختلّ، لا يمكنهم بأنفسهم تفسيره، ولا يتجاوز الأثر الذي يريدون تركه "للجمهور" في نشر تلك الصور.
الصديقة الوحيدة التي تستطيع أن تسرد لي التفاصيل الدقيقة لتجربة السفر من ناحية الأثر النفسي والمقارنة بين التجارب الأخرى وما تعلمته من الرحلة إنسانياً لا تنشر شيئاً على الإطلاق من رحلتها على مواقع التواصل، وهي تسرد بالتفصيل حين أسألها، لدرجة أشعر فيها أنني أقرأ رواية ساحرة مكتوبة بضمير الراوي العليم، وبدون مبالغات في الوصف أو تبسيط للشعور بكلمات ضخمة وقليلة، أعتبرها الناجي الوحيد من جريمة "إباحية السفر".
في السابق لم يكن السفر متاحاً للكثيرين مثلما هو اليوم، وكان حصرًا على فئة محدودة من الناس، للساسة والدبلوماسيين والتجار ورجال الأعمال وعائلاتهم، وهو ما أثّر حتّى اليوم على اعتبار السفر نوعًا من الرفاهية الراقية الذي أصبح يحتاج لأن يوضع في سياق اجتماعي كي يكتسب قيمته، أكثر من كونه متعة ذاتية أو هواية خاصة بممارسها، وهذا أمر سهّلته وسائل التواصل الاجتماعي. بعبارة أخرى أصبحت قيمة السفر مرتبطة بمشاركته مع الآخرين واستعراضه على وسائل التواصل الاجتماعي، وجرى اختزال المتعة في الإبلاغ عن السفر لا في السفر نفسه، حتى بات الاستكشاف والمغامرة وعيش اللحظة كلها وكأنه يحصل لأجل عيون الآخرين لا لأجل أنفسنا.