جاءت ردود فعل الحقوقيين والخبراء الأمميين على قرار وقف تمويل الأونروا عاطفيةً وبليغة: كارثيّ. خطأ تاريخيّ. مشوّه وضار. عقاب جماعيّ وازدواجية بائسة. قرار ظالم.
لكنّ أهمها على الإطلاق هو ما جاء على لسان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، يوم الإثنين الماضي، الذي قال إن إسرائيل لم تُقدّم رسميًّا ملفًا بشأن اتهام موظفين بوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بقطاع غزة.
تجلّت الإضافة الأهم في هذا التصريح في وصفه الدول التي قطعت تمويلها بأنها "تدعم الإبادة الجماعية الإسرائيلية"، وأنها تعمل لأن "يموت الفلسطينيون جوعًا".
هذه هي الخلاصة، وعند هذا الحدّ يمكننا التوقف عن أخذ أي تصريح آخر على محمل الجد.
أما غايتنا من النظر إلى التصريحات الإسرائيلية فهي معرفة كيف يدور التفكير علانيةً في الإبادة الجماعية، إذ إن المنظمة التي تُذكّر العالم بجريمة التطهير العرقي عام 1948 يجب أن تُلغى لتُخفي إسرائيل عارها. في 2018 قال نتنياهو: "تعمل الأونروا على إدامة سردية ما يسمى بحق العودة، الذي هدفه القضاء على إسرائيل. لهذه الأسباب، يجب إغلاقها". وهو تصريح أعاده مؤخرًا، بشكل شبه حرفيّ، وزير الخارجية الحالي، إسرائيل كاتس: "لقد حذرنا منذ سنوات من أن الأونروا تعمل على إدامة قضية اللاجئين، وتعرقل السلام، وتعمل كذراع مدني لحماس في غزة". والعبارة الأخيرة في التصريح ليست سوى اختصار لرأي النخبة السياسية في دولة الاحتلال، التي اختصر فحواها أحد ممثليها في الكنيست بالقول إن "الأونروا هي حماس، وحماس هي الأونروا".
الساحة الدبلوماسية تذهب أبعد من مجرد تبرير الهجوم وشيطنة الخصم. إنها بحد ذاتها ضربات قاتلة، موازية للمسار التدميري الذي تؤديه الأعمال العسكرية
ويتفق زعيم المعارضة، يائير لابيد، مع كل هذه الأفكار جملةً وتفصيلًا، حيث قال في رسالة وجهها للكونغرس الأمريكي: "هي جزء من المشكلة ولا يمكن أن تكون جزءًا من الحل". ولمزيد من التهويل والمزايدة على الحكومة التي يعارضها قال: "لقد صدمنا بحجم الأنفاق التي تم العثور عليها تحت مباني الأونروا، وتورط موظفيها في الإرهاب، واستخدام منشآتها لتنفيذ هجمات ضد إسرائيل".
من الممكن تفهّم أسباب الهجوم على الأونروا في الفترات السابقة، لكنّ خطورة الحملة الحالية تكمن في كونها تأتي في ظل حرب إبادة تقوم خلالها المنظمة الأممية بدور إنسانيّ شديد الأهمية، رغم شّح الموارد وصعوبة إيصال المساعدات. ما يجعل الهجوم عليها واحدًا من أهم تفاصيل الفترة القاتمة التي يعيشها قطاع غزة الذي يُحارب في كل شيء، ولم يبق من شيء متاح له إلا الهواء، بعدما مُنع الطعام والماء والدواء، وهُدمت البيوت ومراكز الإيواء.
لا يمكن تحميل مؤسسة ما الخيارات التي يتخذها بعض موظفيها، والذين عملوا في الأونروا أدوا وظائف محددة، ولم تشتر المنظمة منهم مواقفهم السياسية والاجتماعية والإنسانية، لأنّ عقود التوظيف لا تتضمن مثل هذه البنود أصلًا، إلا إذا كان قادة دولة الاحتلال يعتقدون بهذا النوع من العبودية!
تعرضت الأونروا لواحدة من أخطر الأزمات التي مرت بها بعد أزمة الاتفاقات التطبيعية التي انتهت الى قطع التمويل الأمريكي عنها في عهد ترامب. والاتهامات الإسرائيلية ليست الأولى على كل حال، فمنذ بداية الحرب على غزة، عمدت إسرائيل إلى اتهام موظفي الأونروا بالعمل لصالح "حماس"، في ما اعتُبر "تبريرًا مسبقًا" لضرب مدارس ومرافق المنظمة في مختلف مدن القطاع.
وتظل الحقيقة ساطعة على الدوام، وهي أنه لن يتم طي قضية اللجوء الفلسطيني، ولا إجهاض تطلعات الفلسطينيين نحو حق العودة، إذ إنه ما دام هناك احتلال وتشريد، سيبقى هذا الحق قائمًا، وسيظل الفلسطينيون يطالبون به.
عندما نُفكر في الحروب والطرق التي تُشن بها يذهب تفكيرنا نحو المسائل التقنية: الطائرات والمسيّرات، والقوات البرية التي تجوب المناطق، والسياسيون الذين يُلقون أطنانًا من الخطب النارية. لكنّ الحروب الحديثة تحدث دائمًا على المسرح الدبلوماسي، إلى درجة أنّ الساحة الدبلوماسية تذهب أبعد من مجرد تبرير الهجوم وشيطنة الخصم. إنها بحد ذاتها ضربات قاتلة، موازية للمسار التدميري الذي تؤديه الأعمال العسكرية.
وهذا ما نراه حاليًا في سعي دولة الاحتلال لمنع الأونروا من الاستمرار بنفس الطريقة التي تحرم فيها الفلسطينيين من الاستمرار في الحياة: من خلال العزل والحصار وقطع المساعدات الإنسانية وترسيخ الأكاذيب على أنها حقائق، بما يدفع الغرب إلى الانخراط في أعمال الإبادة الجماعية، تحت راية العدالة والديمقراطية والدفاع عن النفس.