لا تدري هل يحترم الجزائريون الفلسفة، أم يهابونها، أم يعتبرونها كلامًا فارغًا. يظهر ذلك في نقاشاتهم ونظرتهم إلى من يتخصّص في دراستها. وتتوفّر الجامعة الجزائرية اليوم على 25 معهدًا متخصّصًا في الفلسفة، كثير من الأساتذة في هذه المعاهد من الجيل الجديد، إمّا اختاروا الفلسفة من باب الحظ، أو من باب التوجيه القسري، فهم يُدرّسونها كما "حفظوها"، وإمّا تماشيًا مع رغبتهم في البحث عن إجابات وجودية، كما حصل لإسماعيل مهنانة أستاذ الفلسفة الغربية المعاصرة في جامعة قسنطينة، فيضعون يدًا في البرنامج المقّرر، وأخرى في ما تجود به العقول المفكرة في العالم.
لا تدري هل يحترم الجزائريون الفلسفة، أم يهابونها، أم يعتبرونها كلامًا فارغًا ويظهر موقفهم في نقاشاتهم ونظرتهم إلى من يتخصص فيها
يقول إسماعيل مهنانة، 1982، إنه شرع، خلال مرحلة التّعليم الثّانوي، في طرح الكثير من الأسئلة الوجودية داخل بيئة محافظة وموغلة في حياة الزّهد والعزلة، "حيث حفظت شطرًا كبيرًا من القرآن، واطلعت على الكثير من الكتب الدينية التقليدية التي لم تجب على أسئلتي في شيء، لهذا اتجهت إلى قراءة الأدب والرّواية الفرنسية والمترجمة إلى اللغة الفرنسية خاصّة، بلزاك، فلوبير، كافكا، بروست ورشيد بوجدرة، أعتقد أن سؤال/ حياة العبث في الرّواية هو ما قادني إلى دراسة الفلسفة في الجامعة".
اقرأ/ي أيضًا: الفلسفة والتاريخ: العروي يتأمَّل نفسه
الخيبة في الإجابات التي كانت تقدّمها النصوص الدينية والتراثية لعقل إسماعيل، انضافت إليها خيبة أخرى، عند التحاقه بقسم الفلسفة في جامعة بوزريعة بالجزائر العاصمة، "وجدت أنّ معظم زملائي قد سيقوا إلى الفلسفة، فقط لأن معدلاتهم في البكالوريا/الثانوية العامّة لم تمكّنهم من تخصّصات أخرى، وأن معظم الطالبات اخترن الفلسفة هروبًا من المدن الصّغيرة إلى العاصمة، لأن الفلسفة في ذلك الوقت لم تكن موجودة إلا في ثلاث مدن كبرى، منها العاصمة، وتوالت الخيبات لأن معظم الأساتذة كانوا يحصرون مفهوم الفلسفة في الحصول على علامة جيدة في المقاييس المقرّرة".
كانت الجزائر آنذاك، يقول محدّثنا، تخرج من حربها مع الإرهاب المسلّح، وتعدّ قتلاها وجرحاها ومفقوديها، وتبحث عن مسؤول على الخيبة الوطنية، وكنت لا أزال أبحث في كتب الفلسفة عن معنى لكل ذلك الخراب المادي والمعنوي. "كانت الدروس في معظمها جافّةً، إلا دروس بعض الأساتذة النّابهين الذين أدين لهم بالكثير، لذلك كنت أقضي اليوم في المكتبة".
ولفت مهنانة الانتباه إلى أنّ الجامعة الجزائرية، في الشّمال، وأقسام الفلسفة، كانوا منقسمين أيديولوجيًا بشكل حاد، وكانوا مسرحًا للحركة الأمازيغية التي ألهبت جمارها من جديد عام 2001، "لهذا فقد عايشت وفهمت المشكلة الأيديولوجية أعمقَ ممّا يمكن أن أستوعبها في أيّ مكان آخر، ووجدت نفسي منخرطًا فيها من حيث لا أدري". يضيف: "بعد ذلك، حدثت تغييرات بنيوية داخل الجامعة الجزائرية ككل، بكسر المركزية وفتح جامعات قروية وإفراغها من كل محتوى أو وعي سياسي، ممّا أدخلنا في عصر التصحّر الأكاديمي".
يستحضر بعض ما أسماها "العقول الكبيرة" التي رافقته، من خلال كتبها في تلك الفترة، هيغل وماركس وفرويد ونيتشه، ثم هيدغر وفوكو وجاك ديريدا وجيل دولوز. "هؤلاء كانوا يفتحون ذهني على الكثير من الأبعاد الوجودية التي طمسها السّائد من الثقافة وعمليات غسل الدماغ التي كان جيلي يخضع لها بالجملة". وبرسالة حول الفيلسوف النمساوي إدموند هوسيرل، حصل إسماعيل على إجازة/بكالوريوس فلسفة سنة 2002، ولأنه كان الأوّل في دفعته، فقد كرّمته رئاسة الجمهورية حينها.
اقرأ/ي أيضًا: المغرب.. جدل بعد وصف الفلسفة بـ"الزندقة والانحلال"
واصل دراسة الماجستير في بحث "فينومينولوجيا العدم عند مارتن هيدغر"، عام 2004 ، ليتخصّص بعدها في الدّراسات الهيدغرية. وعلى هامش البحث الأكاديمي، واصل هوسه القديم بقراءة الرواية. "لأني كنت أجد في تاريخ الرواية الغربية، تاريخًا آخرَ محايثًا ومضادًّا لتاريخ الفلسفة الغربية الحديثة نفسها، فكلاهما كشف عن أبعاد الكينونة المنسية بلغة هيدغر. كما أني تعلمت أن النجاح في أي مجال يتطلب دخوله من هامش آخر، من خارجه، من منظور مختلف يكسر نمطية المنظور الواحد".
حاول إسماعيل مهنانة النهوض بالكتابة الفلسفية في العالم العربي، وتنسيق جهود الجيل الجديد في عمل جماعي تضطلع به شبكة واحدة
في هذه الأثناء، يعيش إسماعيل تجربة خاصّة، وهي أن يصبح أستاذًا معيدًا في جامعة الجزائر، وهو لم يتجاوز 22 عامًا، ثم يُعيّن بعدها بقليل، أستاذًا في جامعة قسنطينة، حيث كان الكثير من طلبته في مثل سنّه. "كانت تجربة بقدر ما تقفز بك في سلّم النضج والمسؤولية والثقة بالنفس، بقدر ما تستدرجك إلى نوع من التحنيط الجامعي، وتلزمك بنمطية معيّنة في التفكير والسلوك، خاصة مع نوازع تمرّدية كانت دائمًا تدفع بي عفويًا نحو كسر السّائد والمألوف وانتهاك كل نظام هيمنة راسخ". يبدي دهشته: "كيف صبرت كل هذه المدة على مؤسسة راسخة في صناعة القولبة والتنميط؟".
في عام 2007، حصل على منحة لإتمام رسالة الدكتوراه في جامعة باريس الثامنة، معقل الفكر اليساري، وكانت فرصة ثمينة له للاحتكاك المباشر ببعض العقول الفلسفية التي كان يقرأ لها/عنها فقط، وفرصة للاطلاع على الكثير من جديد عالم الفلسفة، فكان موضوع رسالته لنيل الدكتوراه "هيدغر ونقد الميتافيزيقا الغربية الحديثة". "شعرت بفراغ قاتل لأنني اكتشفت كوني لا أزال مدفوعًا بحافز المعنى في محيط يعجّ باللاجدوى، فلجأتُ إلى إميل سيوران الذي أطلق رصاصة الرحمة على ما تبقّى في داخلي من أوهامي الذّاتية".
هنا، حاول مهنانة النهوض بالكتابة الفلسفية في العالم العربي، وتنسيق جهود الجيل الجديد في عمل جماعي تضطلع به شبكة واحدة، فأسّس "الرابطة الأكاديمية العربية للفلسفة" مع صديقه العراقي علي عبّود المحمداوي. "قمنا بعمل تأسيسي مضنٍ، لكنه أثمر عشرات الكتب والموسوعات والمجلدات التي لاقت رواجًا جامعيًا كبيرًا، وتلمّست في تلك التجربة، كل مواطن المرض والعجز الذي ألمّ بالفكر العربي عامّة والكتابة الفلسفية خاصّة، وشعرت بعدها بالحاجة إلى التفرغ فرديًا إلى ما تتطلبه تلك الكتابة من اشتغال على نزع السحر والقداسة عن كلّ المقولات التراثية التي تحدّد مصيرنا بشكل تراجيدي".
بدأ هذا المشروع بكتاب "العرب ومسألة الاختلاف" عام 2014، ثمّ كتاب "كتابات على جدار الأزمة" عام 2016، بعد كتابيه "إدوارد سعيد" وكتاب "الوجود والحداثة" عام 2012. يقول عن تجربة الكتابة: "تعلّمت فيها بناء الموقف الأيديولوجي داخل الموقف الأكاديمي، والتمييز الحاسم بين "الموقف الإيماني" والموقف المعرفي وبين الموقف النضالي والموقف البحثي، بوسائل منهجية مؤسسة".
قبل أيام قليلة، توّج إسماعيل مهنانة هذا المسار الأكاديمي بدرجة "البروفيسورا" التي يقول عنها إنها ليست سوى ترقية جامعية عادية، وفرصة لانطلاقة مختلفة في مغامرات فكرية وكتابية متحررة من العبء الجامعي وقيوده.
اقرأ/ي أيضًا: