"لتمام الظهور.. لا بدّ من غياب"
عجيب شأن تويتر، وأعجب منه شأننا معه. كم كرهناه، لكنّا ما نزال نشايع طائره الأزرق الصغير، قبل أن يُنسى، ويفسح المجال لرمز جديد، يتألّف من عصاتين بيضاوين متقاطعتين، على خلفية مسودّة، يُدعى "إكس" أو "أَكس".
في مقاله الأخير، رثى الزميل رائد وحش طائرنا الراحل، واستعاد فيه طائر المُكّاء، أو "أمّ سالم"، المفضّل لدى امرئ القيس، والذي تخيّله في البيت المشهور، مخمورًا خفيفًا، يغرّد بلا قيدٍ ولا وعيٍ مفرط بالذات، بفضل السلاف، وهو أجود أنواع النبيذ عند العرب، و"المفلفل" أيضًا، وهو ما يفسّر حدّة لسان هذا الطائر عند رنينه. ليس ثمّة مقابل شاعري لطائر "تويتر" في حياته أقرب من المُكّاء، ولو تسنّى لنا أن نطلق نحن العرب على تويتر اسمًا آخر، في عصر آخر، لكان مكّاء امرئ القيس في مقدمة الخيارات، في المرتبة الثانية ربما بعد البلبل. أمّا اليوم، فهنالك كلمة أخرى تحضر دومًا عند التفكير بتويتر وجنون صاحبه الجديد: العصفوريّة.
سيتواصل هذا الرثاء بأشكال عديدة، رغم أنّ المنصّة ما تزال قائمة، وما يزال المستخدمون يكتبون عليها ويتناقشون، وما تزال تمثّل إلى حد بعيد الميدان الرقميّ المفضّل للصحفيين والسياسيين والمشاهير، والغالبية العظمى من المؤسسات الرسمية والمنظمات الدولية ومشاريع الأعمال، عند نشر التدوينات النصيّة الصغيرة أو الطويلة. لم يحصل بعدُ على تويتر/إكس ما يجعل الناس ينزحون عنه، ولم يخرج إليهم أي تطبيق سواه يغري بالهجرة إليها. لقد تعوّدنا عليه، وما نزال لذلك أميل إلى العودة إليه، حتى وهو في هذه الحالة من التناسخ الوجودي عبر اسمه الجديد، الذي يتدفق ذكورة وعبطًا، وسيظل غير مستحسن حّتى حين.
نرثي اليوم رمز تويتر بعد أكسنته، وربما نرثي المنصّة غدًا لو اكتمل تغيّرها وتخلّقت في شيء جديد على صورة ماسك، والذي لا شغل له اليوم يعدو عن تذكيرنا بالبنية الأساسية التي قامت عليها جميع هذه المنصّات الكبرى، ووعودها الكاذبة حول تيسير الوصول إلى المعلومة والخبر، دون منحنا أية وسيلة لضبط تغوّلها على حياتنا وإدماننا عليها، ولم تخبرنا كيف نتحكم بصنبور "المعلومات" التي تأزّ في أدمغتنا بلا فرصة لمعالجتها وترتيبها. إنها عملية "إغراق" خانقة، كتلك التي يمارسها المحقق الأمريكي أو الذي يعمل عنده، في غوانتامو ومراكز التحقيق السريّة. يتحوّل الماء، عنصر الحياة، إلى أداة قتل حين يدهمنا، وكذا تيار المعلومات الذي لا ينقطع من، تويتر/إكس، وسواه من التطبيقات التي أشرفت على هذه المرحلة "الإكسية"، ولم يتبقّ لديها من فسحة للابتكار، إلا عبر تدوير الرموز والحرص على إدامة دورة الإدمان عليها ورؤية الكون من خلالها.
نرثي اليوم هذا الرمز التجاري، الذي صار مرادفًا للمرموز إليه في مخيال ملايين الناس حول المعمورة الرقميّة، واعتدنا عليه، واستوعبنا قيمته الرمزيّة بعد أن استوعبنا وأغرانا بما يحيل إليه من وعود وتجارب وآمال. هذا كلّه دفع إيلون ماسك، إلى شراء هذه الشركة ذات الرمز الأزرق اللطيف، بزهاء 44 مليار دولار أمريكي، دون اكتراث كبير للمال كما ادّعى، بل إيمانًا بالقيمة الرمزيّة المحشودة في هذه المنشأة عبر السنين، ورغبة بالحفاظ عليها ساحةً رقميّة "كونية" لحرية التعبير، في معركة الرجل الشخصية من أجل الحفاظ على "الحضارة" في وجه الاستبداد، بحسب تغريدة شهيرة له.
مع ذلك، تعلّمنا الكثير من تويتر، تعرفنا إلى العديد من الناس الذين غدوا أصدقاء وزملاء عمل، ظننّا لوهلة أنه وسيلة أفضل نسبيًا لمتابعة ما يجري قربنا ومن حولنا، ووجدنا فيه وسيلة لنشر ما نفكّر فيه ونكتب عنه، وصار معلّما للكتابة، على النحو الذي أعجب مرّة عبدالسلام بنعبدالعالي، رغم أنه لا يملك حسابًا معروفًا على المنصّة، أو حتى على مستوى التعليم الحقيقي للكتابة، في غرف الصفّ وقاعات تدريس مهارة الكتابة الحديثة، حيث دمج بعض المعلمين تويتر في منهج التعبير والتقييم. كما عثرنا ونحن ننظر فيه بعناوين كتب ومقالات ألقيناها في سلّة كبيرة للمحفوظات، ونسيناها. أما أصعب الدروس التي تعلمناها من تويتر عربيًا، فهو فشل الرهان عليه كوسيلة للتغيير السياسي والاجتماعي، وضرورة النظر في دورها ضمن نموذجها الاستغلالي المعطوب القائم حاليًا، والذي يحرص على الحدّ من قدرة البشر من استخدام طاقاتهم للصالح العام، ويغيبهم عمّا يجدر بهم السعي وراءه والمطالبة به.
أتى ماسك في الأشهر الماضية على كل ما هو جوهريّ في تويتر، من سياسات إدارة المحتوى والتوثيق، وحتى سياسات التمويل وقواعد المحتوى المدفوع
أتى ماسك في الأشهر الماضية على كثير مما هو جوهريّ في المنصة القديمة، من سياسات إدارة المحتوى والتوثيق، وحتى سياسات التمويل وقواعد المحتوى المدفوع، وأتى قبل ذلك على الكتلة البشرية التي تعمل في الشركة، فسرّح ثلثيها، واستقدم فوقهم إدارات جديدة، وراح يعبث بالمنصّة ذات اليمين وذات اليمين، حتى أضحت علمًا عليه، فصرنا نقول "تويتر ماسك". لكنّ العصفور الأزرق الصغير، ظلّ مع ذلك أكبر من صاحبه، فقتله. أراد له ماسك أن يغيب، لكي يتمّ ظهوره هو، ورجمه برمز شنيع في ذاته، وفيما يحوم حول شكله من دلالات، هذا عدا عن كونه تمثيلًا للرجل نفسه، الذي لو تجلّى في حرف لما وسعه إلا "إكس" كبير ومتوحّش، يجبّ ما سبقه ويمحوه، وكأنه يقول وهو يعلك على وهم كبير بعد كأس نبيذ رديء، بخلاف نبيذ المكاكي، "أنا أحيي وأميت".