غادرنا طائر تويتر في ليلةٍ ظلماء. ويحلو لنا أن نتخيّله مرفرفًا بجناحين أزرقين ومنقارٍ مفتوح يملأ السماء بتغريده الحزين عشيةَ ذلك الرحيل.
نتخيله كذلك لأنه الطائر الأكثر شبهًا بطيور امرئ القيس المخمورة: "كأنَّ مكاكي الجواء غديةً: صبحن سلافًا من رحيق مفلفل"، إذ وصفَ المكاكيَ بالطائر السكران، لأنه شرب خلاصة الخمر مضافًا إليها الفلفل في الصباح المبكر، فخفّ جسمه في التحليق وانطلق لسانه في الغناء.
يحلو لنا أن نذهب مع ذلك الخيال لننسى أن طائرنا الأزرق شُطب علانيةً بحرف "X" قاتمٍ ولئيم.
طائر تويتر ليس من طيور الطبيعة ليختط لنفسه مسارًا ثابتًا في رحلتي الشتاء والصيف. وليس من طيور الأساطير القديمة حتى يعبر بوابات عالم الآلهة كي يسرق الضوء ويهديه للكائنات الأرضية
مضى الرمز الأجمل والأعمق في عالم المنصات والتكنولوجيا. الرمز الأكثر شاعرية لأداة تفتقد المعاني الشاعرية.
لكن إلى أين ذهب الطائر؟
هو ليس من طيور الطبيعة ليختط لنفسه مسارًا ثابتًا في رحلتي الشتاء والصيف. وليس من طيور الأساطير القديمة حتى يعبر بوابات عالم الآلهة كي يسرق الضوء ويهديه للكائنات الأرضية، لكنْ قبل خروجه من الفتحة الأخيرة يُفلت الضوءَ من منقاره ويسقط وينكسر ويتبعثر فيُشكّل النجوم التي نعرفها في سمائنا. وليس من طيور الأدب حتى يمضي في رحلة في البحث عن الله، عابرًا أودية السلوك السبعة.
فإلى أين مضى إذًا ذلك الطائر الأزرق الذي لوّن حياتنا لسنوات طويلة، كنا فيها مراتٍ معه، ومراتٍ أخرى ضده؟
قتله شخص أرعن. لم يُطلق عليه النار. لم ينحر عنقه بسكين. لم يستمتع بنتف ريشه بسادية. بل شطبه بحرف، لأنه يعرف أنّ الرمز لا يُقضى عليه إلا برمز آخر، ولهذا فإن "X" توتير الجديد حرف يمثّل الشطب والمحو والحذف.
في هذا ما يشبه ما حدث في تاريخ اللغة حين حلّت الأبجدية محلَّ الأيقونات، والأحرف مكانَ الصور، لكنّ الأبعد من ذلك أن حرب إيلون ماسك العنيفة هي حرب على الماضي، كل الماضي، لأنّ الحاضر هو القابل للامتلاك.
لنتذكر جيدًا أننا لم نر هذا الحرف يومًا في مكان إيجابي، ولم نعرفه قابعًا في نقطة كي يدعو لما نعرف أنه جيد وصالح. ثمة سلبية راسخة في شكله ووظيفته.
وإيلون ماسك يريد أن يقول: لا يمكن لأحد أن يتحداني! أنا الرجل الأكبر من أي منازلة!
حين تحداه تويتر اشتراه. وحين تحداه التويتريون ألغى منصتهم. وعلى الأرجح حين فكّر باللوغو الجديد مرّت في باله كلمة واحدة فقط: "سأريكم"، وإلا لم اختار هذا الرمز من بين ملايين التصاميم التي يمكن لماله أن يشتريها؟
حين شُطب الطائر بالـ"X" الأبيض على خلفية الأسود الذي لم يسبق استعماله في عالم المنصات، بدا واضحًا أن المقصود هو الإطاحة بالرمزية التي يحملها أولًا وأخيرًا
رَمزَ الطائر الأزرق كما الطيور كلها إلى الحرية بمعناها الواسع، وحرية التعبير بشكل خاص، إلى جانب ما حمله من رمزية حول الاتصال والتواصل. وحين شُطب الطائر بالـ"X" الأبيض على خلفية الأسود الذي لم يسبق استعماله في عالم المنصات، والذي يشبه شاهدة القبر، بدا واضحًا أن المقصود هو الإطاحة بالرمزية التي يحملها أولًا وأخيرًا.
من الأشياء التي تدعو البشرية للفخر هي قدرتها الفريدة على ابتكار الرموز، ولعلّ اكتساب بعضها دلالات عالمية، كرمزية الصليب التي لم يعد ممكنًا فصلها عن الألم، والحمامة التي صارت رمزًا للسلام، بالإضافة إلى رمزية أنها مأخوذة من قصة سفينة نوح، أي البداية من بعد النهاية. والعين المصرية التي تعرف باسم "عين حورس"، أو اليد التي تعرف باسم "خمسة" أو "يد فاطمة" وكلاهما ترمزان إلى الحماية.. هذه وغيرها الكثير معانٍ كثيفةٌ وعميقةٌ، تتجاوز حدود اللغات وتُشكل فهمًا عالميًّا عامًا، وتعيدنا إلى أشكال اللغة الأولى حين كانت صورًا.
ولو وضعنا طائرنا الأزرق في سياقه الرمزي، أي بين كل الرموز التي عرفتها الرأسمالية، من حرف ميم ماكدونالدز الذي يأخذ شكل الأقواس، وتفاحة آبل المقضومة، وصولًا إلى سهم أمازون الذي يصل بين "A" و"Z"، تبقى صورته هي الأكثر ذكاء وعبقرية على الإطلاق.
رافقنا تويتر طوال سنوات من التطلع الى الحرية، ورافق أحلامنا الداعية إلى التغيير وبناء مستقبل أفضل، وكان مساحة لا مشروطة للشعار السياسي الذي نرفعه متحررين من الرقابة وأدوات أجهزة المخابرات. جعلناه فضاءً موازيًا وبديلًا، وبدا كأنّ الطائر الأزرق يحلق بعيدًا عن أدوات السلطة التقليدية في الضبط والسيطرة. إلا أن هذه اليوتوبيا الزرقاء لم تستمر كثيرًا، فكما نعرف جميعًا تاركت أجهزة القمع الأمر، كما تفعل دائمًا، وأقحمت أدواتها في الحيز الذي سيصبح أضيق أكثر وأكثر مع الوقت، لتخفت ألوان الطائر الأزرق، رويدًا رويدًا، مع الوقت. ولعل إيلون ماسك في غطرسته المعروفة، التي وصلت ذروتها الآن، يمنح لهذه القصة نهاية لائقة، فالطائر الأزرق صار رمزًا أسود، وما مثّل يومًا دعوة إلى الحوار صار إشارة لهذا الصمت الذي يُخيم على عالمٍ مغلقِ الفم بشريط لاصق، أو بخياطةٍ على شكل "X".