أثار المخرج الفلسطيني إيليا سليمان من بداية مشواره في الأفلام الروائية الطويلة، جدلًا مصحوبًا باهتمام النقاد والجمهور، محققًا رواجًا عاليًا، وجوائز مهمة عربيًا وعالميًا، ومع أن إنتاجه من الأفلام الطويلة بقي محدودًا، فقد صار سليمان اسمًا مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بأي حديث عن السينما الفلسطينية. هنا نعرض موجزًا عن سيرة الرجل، التي قوّمها بثلاثة أفلام طويلة، حازت على ما ذكر أعلاه من احتفاء ونجاح.
ولد المخرج الفلسطيني في الناصرة عام 1960، وعاش عمره متنقلًا بين مدينته الأم وبين منافيه المتعددة، إثر مضايقات إسرائيلية عدة تعرض لها منذ بدايات شبابه، وقد نضجت وتبلورت تجربته في السينما من خلال هذا التنقل، مخرجًا مجموعة من الأفلام الوثائقية أو القصيرة، من بداية التسعينيات، وحائزًا على مجموعة من الجوائز مثل جائزة مهرجان أطلنطا السينمائي. وقد أسست هذه التجربة على ما يبدو، لمشواره الذي بدأ مع الأفلام الروائية الطويلة، التي نعرض هنا أبرزها.
من تأليف وإخراج سليمان، وتمثيله. يعرض الفيلم سيرة اختفاء العربي الفلسطيني في إسرائيل، من خلال قصة مخرج فلسطيني، يعود إلى بلده المحتلة، بعد توقيع اتفاق السلام مع منظمة التحرير. يركز العمل الذي يبدو سيرة شخصية للمخرج والمؤلف، على رصد التغيرات التي يواجهها البطل في قسمي الفيلم، فتدور أحداث القسم الأول في الناصرة، بينما ينتقل القسم الثاني إلى القدس. يشير الفيلم إلى مظاهر اختفاء الفلسطيني في دولة ليست له.
وبتقنية تكررت كثيرًا في أفلامه اللاحقة، يغلب الصمت فيها على الحوار، يظهر سليمان مشاهد مصورة مكثفة ومحملة بدلالات رمزية عالية، تتحمل كثيرًا من التأويل. يبدو العمل ساخطًا في مشاهد عدة على خطوة منظمة التحرير التي عززت هذا الاختفاء إثر توقيعها على التسوية السياسية المرحلية البائسة في أيلول/سبتمبر 1993.
أثار العمل الذي حاز على الجائزة الأولى في مهرجان فينيسا للأفلام، نقاشات كثيرة، وسخطًا في الأوساط الفنية، العربية والفلسطينية، إذ كان ممولًا بالأساس من الحكومة الإسرائيلية. وبرر المخرج هذا التمويل، بأحقيته كإنسان فلسطيني حاصل على المواطنة الإسرائيلية وإن كانت ناقصة، بالحصول على تمويل، فهو على حد وصفه يدفع الضرائب ويقدم التزامات مجبرًا للدولة. وقد شهدت الساحة السينمائية في فلسطين حالات مشابهة ثار الجدل حول تلقيها تمويل من جهات رسمية إسرائيلية، لكن وكالعادة في النقاشات الفلسطينية الحساسة والمتطلبة للخفة والبراعة يضيع الجوهر في التناكف والتحزب على حساب السؤال المؤسس للحالة برمتها.
من إنتاج مشترك فلسطيني فرنسي ألماني، تعرض قصة الفيلم تجربة حب بين فلسطيني من القدس وفتاة فلسطينية من رام الله. في سياق تظل الحدود والحواجز فيه مانعًا للقاء. ومع أن القصة تبدو للوهلة الأولى نمطية جدًا، إلا أن شيئًا في الفيلم لا تنطبق عليه هذه الصفة، فعادة المخرج معروفة في تهميش دور القصة، مقابل الدور المركزي الذي يعطيه للمشهد نفسه، أي للصورة الصامتة والكاميرا الثابتة التي لا تتحرك كثيرًا أو لا تتحرك بالمرة، أو الدور المركزي الذي يعطيه للحوار على قلة وجوده، وللكوميديا السوداء. فلا يعتمد الفيلم على القصة الرئيسية، بقدر ما يعتمد على يوميات وقصص فرعية.
حصل الفيلم على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان، واحد من أهم تظاهرات السينما العالمية، إضافة إلى حصوله على مجموعة أخرى من الجوائز العالمية، مثل جائزة سكرين عن أفضل فيلم أجنبي، وترشحه لأخرى مثل جائزة السعفة الذهبية عن أفضل فيلم غير أوروبي.
الزمن الباقي: تاريخ الحاضر الغائب (2009)
يبدو هذا العمل أكثر أعمال إيليا سليمان التي كانت على صلة وشيجة بسيرته الشخصية والعائلية، مع أن هذه السيرة ظهرت في معظم أعماله. فيؤرخ العمل من خلال شخصية الأب فؤاد، لمقاومة الفلسطينيين لمشروع تأسيس الدولة الإسرائيلية قبل النكبة، قبل بدئه في عرض التحولات الحاسمة التي طورت مسار وحياة الفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم بعد تأسس دولة الاستعمار.
ويستلهم الفيلم اسمه من أحد القوانين الإسرائيلية التي صنفت الفلسطينيين الباقين، الذين لم يكن معظمهم مواطنين أول الأمر، والذين سلبت أراضيهم بحجة الغياب. تظهر في الفيلم متلازمة المقاومة والتنازل، عارضًا صورة جديدة تبين التنازلات التي أجبر الفلسطيني على تقديمها نتيجة بقائه في أرضه وفي الدولة الجديدة، لا كخيانة، ولكنها شروط البقاء القاسية، فيخرج المقاومة والتعايش من كونهما ثنائية دائمة، ومن الأحكام السياسية الأخلاقية التي أخذت مطولًا عن الفلسطينيين الذين حافظوا على وجودهم في أرضهم بعد التهجير.
يستمر الفيلم مع شخصية إيليا نفسه، وأحداث متواصلة من التاريخ الفلسطيني، حتى الانتفاضة الثانية، في تواصل بدا تأكيدًا على استمرار القضية والخسارة، خسارة ظهرت أكثر تجلياتها في نهاية الفيلم، مع مشهد العجوز التي تجلس على شرفة في رام الله، مستمعة لأغنية نجاة الصغيرة؛ "أنا بعشق البحر".
اقرأ/ي أيضًا: