ما لم يولد الشيء مبتذلًا بالأصل، فهو قابل للابتذال بسهولة شديدة وبطريقة بسيطة للغاية: المبالغة في تكراره.
يحصل ذلك في الأدب والفن، كما يحصل في السياسة والنكات والسلع، في العلاقة مع الطبيعة، وفي الطبيعة ذاتها.
كل كاتب يبدأ نصّه اليوم بوصف زقزقة العصافير على الأفنان في الفجر، لن يعثر على قارئ واحد يقبل الانتقال إلى الجملة التالية
كل كاتب يبدأ نصّه اليوم بوصف زقزقة العصافير على الأفنان في الفجر، لن يعثر على قارئ واحد يقبل الانتقال إلى الجملة التالية، ولكن الأرجح أن الكاتب الأول الذي فعل ذلك (قبل مئات السنين ربما) ترك أثرًا عاطفيًا عميقًا في مستمعيه، بل وربما حظي ببعض الدموع. ثم تناقص عدد المهتمين بأول من قلّده، وتناقص فتناقص، حتى صارت هذه اللغة مستهجنة وغير مقبولة.
اقرأ/ي أيضًا: بلادي.. بلادي
جرى شيء كهذا على المفاخر القومية، وعلى وعود الانتصارات، وعلى إرادة الجماهير، ومكافحة الفساد، جرى على ياسمين دمشق ونخيل بغداد ونيل مصر وزيتون تونس، على أسماء بديعة مثل علي ومحمد ومريم وفاطمة.
المشكلة الأكبر في التكرار المفضي إلى الابتذال أنه لا يميز بين ما يستحق وما لا يستحق، وغالبًا ما يطيح بطريقه بأفكار ومفاهيم ورموز كانت تستحق أن تبقى في مكانها العلي. فبعض الناس مثلًا ـ وأنا منهم ـ نعرف ما معنى الابتذال، نتحسسه، نعرف كيف يحصل، وندرك درجة القبح في شيوعه، ولكننا رغم ذلك، قد نحب الياسمين حقًا، بل ونحبه في الشام حيث ابْتُذِل تمامًا. ونحب للنخيل أن يكون في بغداد، وللنيل أن يعبر القاهرة باتجاه الشمال. ونعيد سماع بعض الأغاني "الموفقة" التي غناها مطربون عراقيون لـ "انتصارات" صدام. ونقرأ ـ في الخفاء ربما ـ بعض القصائد الجميلة التي كتبها المتنبي في مديح كافور أو هجائه، فرغم ابتذال موضوعها والتندر المديد عليها، يعرف القرّاء الذوّاقة أن بعضها مزدحم بالشعر الألِق، وقد تحتاج لشجاعة استثنائية كي تقول لقارئ آخر: اسمع هذه الأبيات ما أجملها.
خُلِقتُ أَلوفًا لَو رَحَلتُ إِلى الصِبا لَفارَقتُ شَيبي موجَعَ القَلبِ باكِيا
وَلَكِنَّ بِالفُسطاطِ بَحرًا أَزَرتُهُ حَياتي وَنُصحي وَالهَوى وَالقَوافِيا
وَجُردًا مَدَدنا بَينَ آذانِها القَنا فَبِتنَ خِفافًا يَتَّبِعنَ العَوالِيا
تَماشى بِأَيدٍ كُلَّما وافَتِ الصَفا نَقَشنَ بِهِ صَدرَ البُزاةِ حَوافِيا
وَتَنظُرُ مِن سودٍ صَوادِقَ في الدُجى يَرَينَ بَعيداتِ الشُخوصِ كَما هِيَ
فالمستمع سيسألك حتمًا عن القصيدة كاملة، وستضطر ـ بعد أن تحني رأسك خجلًا ـ أن تعترف بأنها من القصيدة التي يقول فيها:
قَواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غَيرِهِ وَمَن قَصَدَ البَحرَ اِستَقَلُّ السَواقِيا
نظرات الاستنكار التي ستتعرض لها، هي ذاتها التي ستتلقاها فيما لو أعلنت عن حبك للياسمين وللنخيل، أو كرّرت نكتة شائعة، او نشرت على صفحتك الشخصية على أحد مواقع التواصل عبارة لشمس التبريزي أو جلال الرومي (دون أن تكون لأحدهما بالضرورة).
لا أدلَّ على أن الاعتياد لعنة أكثر من تصفيق البشر بحرارة لمهرجان ألعاب نارية يقام على تلّة مرتفعة قرب مدينة عصرية في العيد الوطني أو ما شابه، ولكنهم توقفوا منذ قرون عن التصفيق لشروق الشمس، رغم أنه ما زال أفضل العروض التي تقدّمها الطبيعة على الإطلاق، طبعا مع اتفاقنا ان ما صنعه الانسان هو في النهاية جزء من الطبيعة.
المشكلة الأكبر في التكرار المفضي إلى الابتذال أنه لا يميز بين ما يستحق وما لا يستحق، وغالبًا ما يطيح بطريقه بأفكار ومفاهيم ورموز كانت تستحق أن تبقى في مكانها العلي
لا يتعلق الابتذال بالشيء نفسه، بل بإساءة استخدامه. المبالغة والتكرار أكثر أشكال الاساءة شيوعًا، فهي تفقد الشيء خصوصيته وأصالته، مهما كان هذا الشيء. من عاشوا أزمنة الحروب يعرفون أن ذلك يصيب شأنًا عظيمًا مثل الموت، ويجعله بلا قيمة وأثر، وهو ما يجري اليوم في نصف دول المنطقة، حيث بات خبر الموت يستدعي بضع ثوانٍ فقط من مسّ مشاعرنا ونشرات أخبارنا وثرثراتنا اليومية.
اقرأ/ي أيضًا: ولكن ما تعريف الحروب الأهلية حقًا؟
ويعرف عشّاق المقتنيات ومحبو الفن أكثر من غيرهم، لماذا يكون سعر منحوتة خشبية صنعها فنان ذو خصوصية فريدة مليون ضعف منحوتة خشبية أخرى صنعتها ورشة صينية، لأنها ببساطة صنعت مليون نسخة أخرى عنها.
وصف ماريو بارغاس يوسا خصوصية بورخيس بأنه الكاتب الأكثر أصالة في العالم، ليس لأنه لا يقلّد أحدًا، بل لأنه سيصعب على أي أحد أن يقلده، والدليل كم يبدو أولئك البورخيسيين الصغار مضحكين في محاولاتهم اليائسة للتقليد.
كل ما سلف مفهوم ومنطقي وطبيعي، ولكن ألم تصل عملية ابتذال الأشياء بهذه الطريقة، إلى مرحلة المبالغة، وصارت بحد ذاتها عملية منفّرة ومبتذلة؟ وأظن أننا بسبب وسائل التواصل الكثيرة التي صارت بين أيدينا قد تفوقنا على أنفسنا، وابتذلنا الابتذال.
اقرأ/ي أيضًا: