ليس جديدًا أن يشعر السوريّ (أو العراقي أو حامل وثيقة السّفر الفلسطينية) بأنّه محلّ اتهام. الجديد أنّ الاتهام يتطوّر ويتحوّل إلى امتزاجٍ مدروس للعنصرية بالإسلاموفوبيا مع تغليفهما بالتعالي.
في تجربة شخصية، تعرّضت يوم الجمعة، 12 من الشهر الجاري، إلى تحقيق أمنيّ في مطار مدينة "سيبيو - Sibiu" الرومانية، على خلفية ذهابي للمشاركة في مهرجان "Z9Festival" الشعريّ، الذي تشرف عليه جامعة المدينة.
ليس جديدًا أن يشعر السوريّ بأنّه محلّ اتهام. الجديد أنّ الاتهام يتطوّر ويتحوّل إلى امتزاجٍ مدروس للعنصرية بالإسلاموفوبيا
بدأت المسألة بتوجّس شرطة الحدود من أوراقي، مع أنها أوراق صادرة عن الحكومة الألمانية. طلب الشرطي مني الوقوف جانبًا لكي يمرّ ركاب الطائرة ريثما يقرّرون البتّ في أمري، وطال الوقوف مدّة عبور ركّاب طائرة أخرى، فكان عليّ تحمّل آلاف النظرات المرتابة من طابور بشريّ بطول نهر.
اقرأ/ي أيضًا: أن تكون عربيًّا في مطار أوروبيّ
جاء شابان أنيقان من أمن المطار، يُبديان كَمًّا من اللطافة التي تشعرك أنها كانت جزءًا أساسيًّا من التدريبات التي تلقياها. دعواني إلى غرفة جانبية في القاعة ذاتها من أجل دردشةٍ عابرة ليس غير، مُعلِّلَيْن الأمر بأنّ رومانيا خارج اتفاقية "شنغن"، ما يستوجب منهما إجراء روتينيًّا يقوم على أخذ بعض البيانات الشخصية، مع أنني واثق بأنّ هناك طريقة لدى المخابرات الرومانية للوصول إلى بيانات المقيمين في نطاق الاتحاد الأوروبي.
في يدي رواية مُترجمة إلى العربية. استأذن أحد المحقّقَين في أن يتصفّحها رغم أنها بلغةٍ لا يفهمها. حاول فتح حديث حول الكتاب زاعمًا أنه مهتم بالروايات. كنتُ سأصدّق ذلك الادعاء لولا يقيني بأن الرواية هنا دليل جنائيّ يساعد في فهم شخصية المتهم.
بدأت الأسئلة الروتينية: من أنت؟ ماذا تعمل؟ لماذا جئت إلى هنا؟ ثم انتقلنا سريعًا إلى أسئلة من نوع: من أبوك؟ من أمّك؟ ما أسماء إخوتك؟ أجبتُ على سؤال الأبوين، لكنّني وجدتُ نفسي مضطرًا للغشّ في الإجابة عن سؤال الإخوة والأخوات، إذ خطر أنني لن أنجو قبل ساعاتٍ إذا ما اعترفتُ لهما بأنني واحد من تسعة أبناء وبنات. حذفتُ من العائلة ما يكفي لأبدو مُقنعًا، مكتفيًا بأختين وأخين، ومع ذلك لم أنج من أسئلة تفصيلية، فحذفت مجدّدًا نصف من لم أحذفهم إذ ادعيت بأنّ الأختين عازبتين، موفرًا وقت الحديث عن زوجي وأطفال كل منهما، كما حدث مع الأخوين.
بعد ذلك جاء السؤال الصاعق: "من هو زعيم قبيلتك؟". جاء كما لو أنه عاديّ ونافل على اعتبار أنَّ العرب بدو وقبائل. قلت كاذبًا لا أنتمي إلى قبيلة مع أنني للصدفة من الفئة التي يتخيلها. خفت إن صارحته أن يكون عليّ أن أعدّد أفراد القبيلة كلها، وهو ما سيحتاج مني أيامًا. قلتُ في نفسي: هذا تحقيق يطمح في أن يكون إحصاء!
"هل أنت سني أم شيعي؟". لم يبال المحقق باحتجاجي على هذا السؤال الذي أعدّه إهانة لأيّ شخص، فلا يمكن أن تكون هوية المرء مقتصرة على المذهب، أو حتى الدين الذي ولد في كنفه. لكنه أكّد، بدبلوماسيةٍ (وكلّ دبلوماسية كاذبة) أنّ الأمر مجرد تعارف، ومحاولة تشكيل نظرة إلى المجتمع الذي جئت منه.
بعد ذلك انهالت الأسئلة التي يبدو أنها أساس هذا التحقيق: ما رأيك بالسلفية؟ كيف تفهم "الجهاد"؟ هل تفيدنا بمعنى "التكفير"؟ ما الذي يعنيه لك "التبليغ"؟ كيف تنظر إلى مفهوم "الهجرة"؟ اعتراض لا طائل منه: يمكنكم معرفة معاني هذه المفاهيم من الكتب! لستم في حاجة إلى معلوماتي! ابتسم أحدهما: "دعنا نقل إننا نريد معرفة رأيك فقط". رأيي؟ أدليتُ بمعلومات ويكيبيديّةٍ، فيما نفرت من عين المحقّق نظرة غير مريحة للتذاكي الذي ادعيه. يمزح أحدهما مزحة تختصر كل شيء: "أليس وجودك في أوروبا هجرة؟". قاصدًا في ذلك الهجرة ضمن مفهومها السلفيّ. حين اعترضتُ هشَّ بيده بأنه مجرد مزاح.
هل شاهدت الدواعش؟ ما موقفك من الأسد؟ ما موقفك من إسرائيل؟ كيف ترى أردوغان؟ أضف إلى ذلك أسئلة شخصية من قبيل: هل تأكل لحم الخنزير؟ هل تصلي؟ هل ذهبت إلى الحج؟
تجيب على تلك الأسئلة بما تمليه قناعاتك. أنا ضدّ داعش والأسد وإسرائيل معًا. أردوغان سياسيّ ورأيي فيه يتعلّق بممارساته ومواقفه. أما عن الصلاة والحج ولحم الخنزير فأسألهما: ما هو موقفكما ممن لا يأكل الخنزير ويصلي ويصوم ويحجّ؟ لا أهتم بالجواب الإنسانويّ اللطيف، فالمراد مسلم معقّم من الإسلام.
يأتي في النهاية المشهد الذي يذكّر بالمخابرات السورية حيث يطلبون النظر إلى صفحتي في فيسبوك، ولكون حاجز اللغة قائمًا سيكتفي أحد المحقّقَيْن بالاطلاع على الصور، على أنني أجزم أنه في وقت لاحق سوف يستعين بمترجم لقراءة المنشورات.
نحن، أبناء شرق المتوسط، فرصة ثمينة للمتاجرة في بازار المخابرات الدولي
لم يعدّ السؤال يتعلّق برفض القادم من بلاد الحرب، بمقدار ما بات الأمر يتعلّق بالاستقواء عليه وإهانته، فنحن لا شيء، حشرات يمكن فحصها تحت المجاهر. طفيليات يمكن طردها بالمبيدات. نحن، أبناء شرق المتوسط، فرصة ثمينة للمتاجرة في بازار المخابرات الدولي.
اقرأ/ي أيضًا: هل يحق لنا أن نشعر بالأمان؟
كنتُ أودّ أن أقف على الطاولة وأخطب فيهما: أيها السيّدان، إن أبحاث المخابرات الاجتماعية والاقتصادية تتفوّق على كبرى المراكز البحثيّة، فالمعلومات التي تتوفّر لكم يستحيل توفّرها لأكثر الباحثين اجتهادًا. أسئلتكم مثل دبلوماسيتكم كاذبة. تنبشون جلد الإنسان لهدفٍ واحد وحيد؛ أن يخاف، أن يشعر بأنّه لا يستطيع فعل شيء إن كان لديه الميل أو الاستعداد. تحقيقكم ليس سوى تهديدات مُشفرّة.
اقرأ/ي أيضًا: