يروي إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" أن البعثات التي كانت تنطلق من الغرب إلى الشرق لدراسته من النواحي كافة، كانت ممأسسة. بمعنى أن المستشرقين، أغلبهم، لم يكونوا يدرسون الشرق بدوافع معرفية/فردية، بل كانت الحكومات الغربية ترسلهم، عبر مؤسسات متخصصة، لتقصّي أحوال الشرق، الأمر الذي أسفر عن حقب استعمارية طويلة الأمد من جانب، ومن جانب آخر عن صورة نمطية بائسة كوّنها الغرب عن الشرق.
لم يكن المستشرقون يدرسون الشرق بدوافع معرفية، بل كانت الحكومات الغربية ترسلهم
هذه الصورة النمطية كشف عنها وفكّكها بكثير من التفصيل والحذق إدوارد سعيد، الأمر الذي جعل الفكر الغربي المبني على دراسات المستشرقين هذه يصاب بإحراج بالغ، بل أكثر، لقد وُضع هذا الفكر موضع التشكيك.
اقرأ/ي أيضًا: جورج طرابيشي.. حفريات الفكر العربي
تفاعل الغربيون والشرقيون على حد سواء، كما بات معلومًا، مع كتاب سعيد واكتشافاته بمختلف أشكال التفاعل: مناقشة وبحثًا واتفاقًا واختلافًا... لكن المؤكد أنه لقي قبولًا عامًا لدى الكتّاب العرب حيث كشف عن آلية ليست "بريئة" لدراسة الغرب للشرق، وبخاصة الشرق الأوسط.
وتماشيًا مع فكرة سعيد، وأحيانًا استجابة لها ظهرت دعوات عربية للقيام بعمل يبدو عكسيًا وهو دراسة الغرب من وجهة نظر عربية. فقد درجت الدراسات العربية على النظر للعرب عبر وجهة نظر غربية، وللثقافة العربية انطلاقًا من رؤية الثقافة الغربية لها... حيث أسست الثقافة الأوروبية نفسها كمركز وفق ما عُرف بـ"المركزية الأوربية" التي ترى أن أوروبا هي مركز العالم، وكل ما هو غير أوروبي هو آخر، وأيضًا بـ"المركزية الغربية" فكل ما هو غير غربي هو آخر. هذا الآخر كان دائمًا موضوعًا للدراسة من قبل الغرب بكل ما ينطوي عليه ذلك من خلق أنماط شبه ثابتة، أو ثابتة، ثم وضع هذا الآخر ضمنها وتأطيره بها. وفي إطار القوة المتنامية والحيوية والمتجددة للثقافة الغربية كانت أن طبعت الكثير من المفكرين العرب بطابعها المهيمن فصارت مقياسًا نهائيًا لهم، فاعتمادًا عليها يرى هؤلاء المفكرون أنفسهم وثقافتهم ومجتمعاتهم سلبًا وإيجابًا، وتحولت علاقة الغرب/ الشرق، الغرب/ العرب إلى علاقة ثنائية، متفجرة وخطرة!
عام 1991، نشر المفكر المصري حسن حنفي كتابه "مقدمة في علم الاستغراب"، واقترح فيه تفكيك ثنائية: شرق/غرب، ثقافة غربية/ ثقافة عربية، وقلْب وجهة النظر والدراسة، فعوضًا أن يكون العرب موضوعًا لدراسة الغرب يكون الغرب موضوعًا لدراسة العرب.
يرى حنفي أن الاستغراب هو الوجه الآخر للاستشراق. فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الشرق) من خلال الآخر (الغرب) فالاستغراب هو رؤية الآخر (الغرب) من خلال الأنا (الشرق)، ويرى أنه من خلال هذه العلاقة تتفكلك تلك المنظومة التي تأسست في، وأسست لـِ،عقدة النقص عند الأنا (الشرق/ العرب)، وعقدة العظمة عند الآخر (الغرب).
وبالفعل، كان حنفي بالكتاب ذاته، وبكتب أخرى لاحقة، مخلصًا لدعوته فدرس الحضارة الغربية والتجليات الثقافية لها منذ نشوئها الأول حتى زمن نشر كتبه على نحو يثير الإعجاب باطلاعه وبتنسيق أفكاره وترتيبها وتوظيفها في السياقات التي أراد. في هذه الأثناء كان يوجه نقدًا لمفكرين عرب اعتمدوا على مناهج معينة لدراسة الغرب دون الأخذ بعين الاعتبار "كلية" الثقافة الغربية، فنقد على سبيل المثال طيب تيزيني الذي اجتزأ الثقافة الغربية، كما يرى حنفي، لصالح المنهج الماركسي، وكذلك محمد عابد الجابري وغيرهما... وقد فضّل الاستغراب عن الاستشراق استنادًا على أن ظهور الاستشراق كان غير محايد، فقد ظهر في مرحلة مد استعماري غربي يهدف إلى الهيمنة والسيطرة، فيما الاستغراب نشأ وليد سياقات ثقافية وحضارية محايدة لاترمي إلى الهيمنة والسيطرة بل إلى التحرر.
موضوع دراسة الغرب حضارةً وثقافةً من قبل مفكرين عرب وجعل العلاقة بين الثقافتين تفاعلية وحوارية وندية، قائمة على التأثر والتأثير المتبادل، وتذويب تلك الثنائية التي ظهرت لفترات طويلة في التاريخ على أنها ثنائية ضدية يفتح على سؤال الهوية في حقيقته، إنه سؤال نهضوي وليس "جكارة" بالغرب "المتفوق"! هذا الموضوع كان يمكن أن يؤدي إلى نتائج مهمة على صعيد التكوّن الثقافي العربي، وكان من شأنه أن يخلق إبداعًا معرفيًا وفكريًا متولدًا من البيئة/ البيئات العربية عوضًا عن أن يبقى مجرد رد فعل ومجرد شرح للثقافة الغربية وإعادة صياغتها على مستوى الشكل فقط. لكن ذلك لم يحدث، فما السبب!
رحلات الاستكشاف الغربية للشرق لم تكن رحلات فردية غالبًا، بل كانت تتم عبر مؤسسات ممولة ومحددة الأهداف والغايات. في تلك الفترة كان الغرب في طور استكمال بنائه كبنية تحتية وبنى ثقافية وسياسية... كان ثمة "System" إذًا. هذا الـ"System" هو الذي يعمل ويسمح بإنجاح عملية البناء تلك. ليس واردًا أن يعمل جزء وتكون باقي الأجزاء معطلة، كيف يمكن أن نرجو إنجاح عملية تنمية ثقافية دون تنمية اجتماعية، هذا الأمر يتحدد بالسياسي وليس بالثقافي. أعتقد أن أوروبا نجحت بإنشاء هذا الـ"System" الذي يعمل ككل، وليس كأجزاء.
بدون إنشاء "System" خاص بنا، سيكون كل الرقص الثقافي العربي على قدم واحدة فقط
المشكلة العربية التي تعطل كل تقدم: ثقافي، اجتماعي، اقتصادي هي عدم وجود هذا الـ"System"، وأعتقد أيضًا أن انعدامه ناتج عن سياسات طويلة من قصر النظر وانعدام مايمكن تسميته "الوطنية" عند النخب الحاكمة، إضافة إلى الاستبداد طويل الأجل الذي مارسه الحكام على شعوبهم. الاستبداد يمنع التنمية الشاملة وبالتالي هو لا يعطّل أي أفق للتقدم فحسب، بل يسهم منهجيًا في تأخر المجتمع وتخلف بناه الأساسية. المفكرون العرب (أغلبهم) نظروا إلى الأمر من وجهة نظر ثقافية فحسب، فطرحوا مقولاتهم التي قد تكون غاية في الأهمية إنما على المستوى الثقافي فحسب، المستوى المتعالي، النخبوي ضمن وهم أن الثقافة تغيّر عبر إيعاز... وبالعودة إلى المجادلات الثقافية العربية يمكن ملاحظة غياب نقد السلطة على حساب نقد المجتمع! الأمر الذي أدى إلى فشل كافة المشاريع العربية منذ عصر النهضة، لا النهضة نجحت ولا التنوير ولا الحداثة، لا التيارات الإسلامية ولا الليبرالية ولا القومية...
اقرأ/ي أيضًا: تاريخية الوعي الإسلامي ومساراته
انطلاقًا من هذا يمكن الاقتناع، على نحو ما، أن أي طموح للتغيير والنهوض الثقافي والاجتماعي والسياسي ينطلق أولًا وقبل كل شيء من تغيير سياسي لاستبدال سلطات وطنية طموحة ديمقراطية بسلطات طغيانية ترى المجتمع من حيث خضوعه لا حيويته، والثقافة من حيث مساندتها له لا من حيث تمردها، والدين من حيث هو قوة سلطوية لا من حيث هو إيمان...
على الفكر إذًا إن ينتقل من نقد المجتمع إلى نقد السلطة، ومن وهم التغيير الثقافي المجرد إلى المساهمة في تغيير اجتماعي وسياسي شامل، والمساهمة في تهيئة الظروف لإنشاء "System" يعمل ككل، ويساهم بإنجاح كل العمليات التغييرية والتطويرية التي يقوم بها مثقفون وسواهم. وإلا سيكون كل ذلك الرقص الثقافي العربي على قدم واحدة فقط.
اقرأ/ي أيضًا:
برهان غليون: الرهان دائمًا على الشعب
عزمي بشارة: "الجيش والسياسة" مدخلًا لفهم الدولة الوطنية العربية