على الرغم من ندرة الجريمة المسلحة في هولندا، إلا أن أعمال القتل والعنف المرتبطة بتجارة المخدرات أصبحت شائعة في السنوات الأخيرة، حيث تتنافس المنظمات الإجرامية فيما بينهما للاستحواذ على أكبر نصيب من السوق المحلية والأوروبية. وفي طليعة هذه المنظمات تأتي مافيا الـ "موكرو"، هذا التنظيم المكون أساساً من أبناء الجالية المغربية في البلاد، والذي يعد الأكثر عنفاً وشراسة في حماية مصالحه وتصفية حساباته.
على الرغم من ندرة الجريمة المسلحة في هولندا، إلا أن أعمال القتل والعنف المرتبطة بتجارة المخدرات والأنشطة غير المشروعة أصبحت شائعة في السنوات الأخيرة.
لا تقتصر لائحة تهديدات هذه العصابة على منافسيها في النشاط الإجرامي، بل تمتد لتطال صحفيين ومحامين وقضاة وسياسيين وأفرادًا من العائلة الملكية الهولندية، يخضعون لحماية مشددة لئلّا يطالهم رصاص أعضائها. هذه الحماية التي قد تفشل في أحيان كثيرة، وينتهي بهم الأمر جثثاً هامدة على جنبات الشوارع، كما حصل في حالات مشابهة تعددت خلال العقد الأخير على الأقل.
في هذا الصدد، تشدد السلطات الهولندية على أن تتم جلسات الاستماع لأعضاء المافيا في المحاكم بحراسة الجيش، وأن يتم طمس هوية شهود العيان حماية لحياتهم. بالمقابل، تمثل المليارات من أموال المخدرات والأعمال غير المشروعة، التي تتسرب إلى المجتمع وتزيد من حدة الفساد، جبهة اشتباك أخرى بين الـ "موكرو" وسلطات أمستردام، والتي رصدت حوالي 500 مليون يورو سنويًا لمكافحة تفاقمها وتقويضها النظام العام، في وقت تخشى فيه البلاد انتشار ثقافة الجريمة والعنف على الطراز الإيطالي، حسب ما يكشف تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
البدايات
تعرف عصابة "موكرو" بكونها مافيا مغربية في هولندا وأجزاء من بلجيكا، ذلك بسبب تحدر أعضائها بالأساس من جنسيات مغاربية، وأكثرهم مغاربة من حاملي الجنسية الهولندية. وتمثل تجارة المخدرات نشاط العصابة الأساسي، بالإضافة إلى تبييض الأموال والتهديد والابتزاز واستخدام العنف والقتل، كما ترويع المواطنين ونشر الخوف في الأحياء وتزوير البيانات الشخصية والبيانات المالية. ويشتق اسمها من الكلمة الهولندية "Mocro"، والتي تستخدم للدلالة على المهاجرين ذوي الأصول المغربية. فيما ترفع شعار الصابة شعاراً لها: "Wie praat، die gaat"، أي "من يتحدث يموت".
وعرفت هذه العصابة ميلادها بداية التسعينات في هولندا، حيث تحولت تدريجيًا إلى إحدى أقوى المنظمات الفاعلة في البلاد. وبعد تزايد قوتها، شعرت في توسيع نشاطاتها؛ كاستيراد وتجارة الكوكايين والحشيش والحبوب المخدرة كـ "الإكستاسي" (Extacy) وحبوب "الميثامفيتامين" (Methamphetamine)، بداية من المغرب إلى هولندا، ومنها إلى دول أخرى، حيث باتت تسيطر على ثلث تجارة المخدرات في القارة الأوروبية.
وقد أتاحت التجارة الخارجية للمنظمة في دول أوروبية كألمانيا وبلجيكا وإسبانيا، وكذلك في دول أمريكا اللاتينية، من إيجاد تمويلات لعملياتها وعدم الاعتماد على نشاط واحد أو سوق وحيد.
أنشطة عابرة للحدود
وعمدت المنظمة أيضاً إلى تطوير صلاتها وشبكة علاقاتها مع الكارتيلات الكولومبية والمكسيكية، وبدأت بنقل المخدرات عبر موانئ أنتويرب وروتردام لتصبح بذلك المنظمة الأساسية لتهريب الكوكايين في أوروبا، سيما في هولندا وبلجيكا، حسب وكالة الاتحاد الأوروبي للتعاون في مجال إنفاذ القانون "اليوروبول".
وتجدر الإشارة إلى استفادة المنظمة من الطلب الأوربي المرتفع على الاستهلاك تلك المخدرات، إذ يقدر حجم استهلاك الكوكايين السنوي في فرنسا -على سبيل المثال لا الحصر- بحوالي 15 طنًا، وفق ما أوضح الباحث المشارك في المعهد الفرنسي للشؤون الدولية والاستراتيجية (IRIS) والخبير في الاتجار غير المشروع بالمخدرات، ديفيد واينبرغر، لموقع فرانس24.
وحاولت السلطات الهولندية مكافحة هذه العصابة الإجرامية، عبر سلسلة من الاعتقالات طالت قياديين بارزين فيها وإخضاعهم للمحاكمة، كضربات في قلب مافيا الـ "موكرو". غير أن عدم خضوع المنظمة كون المنظمة لتنظيم تراتبي في السلطة والمسؤوليات، بل اعتمادها على المجموعات الصغيرة والنشيطة على شكل فروع ترتبط ببعضها البعض وتنشط خلاياها بشكل منفصل ولكل مجموعة رأس مدبر، أضعف من نتائج مساعي السلطات الهولندية في تحجيم نشاطها وتجفيف منابع ومصادر تمويلها.
رضوان التاغي!
يوم الـ 27 أيلول /سبتمبر من العام 2021، أعلنت الشرطة الملكية والديبلوماسية الهولندية تشديها إجراءات حماية رئيس الوزراء مارك روته، جراء مخاوف تعرضه لاعتداء من قبل الـ "موكرو مافيا" بعد تهديدها له، وجاء هذا بعد شهرين فقط من مقتل الصحفي الاستقصائي الهولندي بيتر أر دي فريه، 64 عامًا، والذي كان معروفاً بنبشه في ملفات جرائم العصابة، حسب ما أفادت به سابقاً وكالة رويترز. فيما يجري هذا بالرغم من أن حكومة روته، منذ توليه قيادتها قبل 11 عامًا تقريبًا، قد تعهدت بقمع الجريمة المنظمة.
وشكل مقتل الصحفي الاستقصائي البارز صدمة كبيرة للبلاد، حيث تم إطلاق النار عليه في وضح النهار يوم الـ 6 تموز /يوليو 2021، عندما كان يغادر استوديو التلفزيون، ما سبب له إصابة بليغة توفي على إثرها بعد تسعة أيام. وانتشرت معلومات صحفية هولندية مشيرة إلى أن المشتبه به في هذه الجريمة كان يتصرف بناء على أوامر من رضوان التاغي، 45 عامًا، الذي يعد أكبر رأس في العصابة.
ويلقب التاغي بـ "المنيع من اللمس" (The untouchable)، وهو ابن مهاجرين مغربيين أصبح الرأس الكبرى في مافيا الـ "موكرو"، ويدير إمبراطورية ذات أنشطة متعددة غير مشروعة تقدر بملايين الدولارات، هذا قبل أن يتم اعتقاله عام 2019 في دبي.
ولا يزال التاغي إلى اليوم في سجن فويت الهولندية، بعد أن تم تسليمه من قبل السطات الإماراتية، حيث تشدد عليه الحراسة بانتظار انتهاء محاكمته في تهم أبرزها؛ إصداره أوامر باغتيال تسعة أشخاص، إضافة إلى أنشطته الإجرامية غير القانونية. وقد طلب العديد من الشهود عدم الكشف عن هويتهم خلال المحاكمة، خوفًا من تعرضهم لهجمات انتقامية من قبل العصابة، سيما وأن ترويع الصحفيين والقضاة واغتيال البعض منهم يعتبر من إحدى النقاط المدرجة دومًا على جدول أعمالها.
ويذكر بأن دي فريه كان يستقي معلوماته من المدعو نبيل ب، عضو سابق في مافيا الـ "ماكرو" قبل انشقاقه عنها وتحوله إلى مخبر للحكومة. وكان من المفترض أن تستمع المحكمة إلى أقوال دي فريه، الحائز على جائزة إيمي الدولية، قبل اغتياله. فيما أنكر رضاون التاغي مسؤوليته عن مقتل الصحفي.
وليس ديفريه أول صحفي تغتاله مافيا "موكرو"، ففي عام 2016، قتل الصحفي والمتخصص في مجال الجريمة المنظمة، مارتن كوك، بثماني رصاصات أطلقت عليه بعد استدراجه من قبل أحد أفرادها للسهر في أحد النوادي الليلية. وكذلك تعرضت وسيلتين إعلاميتين محليتين، هما صحيفة "بانوراما" و"دي تيليغراف" الهولندية، للاستهداف من قبل العصابة بعد نشرهما مقالات استقصائية ذكرا خلالها أسماء ومعلومات عن زعماءها.
وسبق ذلك أيضًا اغتيال المحامي ديرك ويرسوم، عام 2019، وهو محامي الدفاع عن المدعو نبيل ب. إضافة إلى عمليات قتل وتصفية طالت العديد من المرتبطين بالعصابة قبل تقديمهم للعدالة كشهود، حسب ما سبق وأفادت به الـ "بي بي سي". بينما طالت تهديدات أخرى عددا من السياسيين، أبرزهم زعيم المعارضة اليمينية المتطرفة خيرت فيلدرز، الذي أجبر منذ 2004 على العيش في منزل آمن وإحاطة نفسه بحراسة مشددة مخافة بتصفيته من المافيا المغربية.
هذا وكشف تقرير نشرته "سي إن إن"، شهر تشرين الأول /أكتوبر من العام الماضي، أن الأميرة كاثرين أماليا، ابنة العاهل الهولندي ويليام، قد عادت إلى قصرها بسبب معلومات عن تهديدات أمنية قد تتعرض لها من قبل الـ "موكرو" مافيا. وفي هذا الصدد، صرَّحت والدة الأميرة، الملكة ماكسيما، قائلة: "ليس لدى ابنتي حياة جامعية كباقي الطلاب"، ذلك بعدما انتقلت من شقتها السكنية بالقرب من الجامعة وعادت إلى القصر الملكي تحت حراسة مشددة.
وفي العام ذاته، نجا فينسنت فان كويكبورن، وزير العدل الهولندي، من محاولة اختطاف قيل بأن المافيا مسؤولة عنها، وتم إيقاف ثلاثة مشتبه بهم في القضية.
سعيد الرزوقي.. الرجل الثاني
فيما تعد أبرز عملية قامت بها السلطات الهولندية ضد مافيا "موكرو"، تلك التي تمت عام 2020، عبر تعاون بين وكالة إدارة مكافحة المخدرات الهولندية ومكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي والشرطة الكولومبية، وخلصت إلى القبض على اليد اليمنى لرضوان التاغي، المدعو سعيد الرزوقي، في مدينة ميديلين الكولومبية. هذا بعد أن كانت السلطات الهولندية قد وضعت جائزة بقيمة 100 ألف يورو لمن يفيد بمعلومات عن تواجد الرزوقي.
وتجدر الإشارة إلى أن تاغي والرزوقي كانا مدرجين على قوائم البحث الدولية، ومطلوبان للعدالة بتهم تتعلق بإصدار أوامر قتل عدة في السنوات الأخيرة، كما تهم ترأس منظمة إجرامية والقيام بعمليات خطف وتجارة المخدرات.
جهود وتمويلات لاحتواء الجريمة
دفع تنامي مافيا الـ "موكرو" في "الأراضي المنخفضة" حكومة البلاد إلى الاستثمار أكثر في التوعية والتربية والتعليم وبرامج التوظيف في المجتمعات المهمشة وداخل الأحياء الفقيرة، وعززت أيضًا سياسات الإدماج الاجتماعي والاقتصادي للمهاجرين الذين يمثلون شريحة مهمة من سكان تلك الأحياء، وبهذا تحاول السلطات الهولندية تقديم خيارات أفضل لشباب تلك "الغيتوهات". كما عملت على التعاون مع دول أخرى، أمنياً واستخباراتياً بشقيه القضائي ومالي، من أجل مكافحة المنظمة خارج الأراضي الهولندية ومحاصرة نشاطها الدولي.
وحسب بيانات هيئة الاحصاء الهولندية، فـ "بالرغم من كون الأفراد من الأقليات العرقية مشتبه بهم في التورط بأعمال إجرامية، لكن الخلفية العرقية تعد أقل أهمية من باقي العوامل الأخرى كالعمر والتعليم والظروف الاقتصادية والاجتماعية" في انتمائهم لعالم الجريمة المنظمة. ويعتقد الباحثون أنه من أجل معالجة ميول أبناء الأحياء المهمشة نحو ذلك النوع من الجريمة، يجب على السلطات معالجة التمييز العنصري وإيجاد حلول تشمل المساواة في الوظائف والفرص والمزايا. بالإضافة إلى إيجاد منهج تعليمي تربوي متكافئ، يتم عبره تمثيل الأطفال من كافة الفئات الاجتماعية والاقتصادية والهويات العرقية، خاصة تلك التي تتحدَّر من جذور غير أوروبية.
كشف تقرير نشرته "سي إن إن"، شهر تشرين الأول /أكتوبر من العام الماضي، أن الأميرة كاثرين أماليا، ابنة العاهل الهولندي ويليام، قد عادت إلى قصرها بسبب معلومات عن تهديدات أمنية قد تتعرض لها من قبل الـ "موكرو" مافيا.
ويشير جاك فان ميدين، مدير مؤسسة SAOA لمكافحة السلوك المعادي للمجتمع، بالقول "لطالما كان هناك شباب مزعجون، ولكن في الوقت الحالي أصبح التعامل مع الشباب أكثر صعوبة". ويضيف في حديثه لصحيفة "الغارديان" البريطانية، موضحاً: "في السنوات الأخيرة أصبح من الصعب تتبع الشباب بسبب دخول وسائل التواصل الاجتماعي حياتهم (...) وعلى عكس ما كان في الماضي، حيث كانوا يقومون بجرائم صغيرة سريعاً ما تتم ملاحظتها، اليوم لا نرى الشباب في الشارع ولا نلاحظهم، ولكن فجأة نجدهم وقد انخرطوا في ميدان الجريمة دون أي إنذار". ويرى ميدين بأن وسائل التواصل الاجتماعي سهلت على المنظمات الإجرامية استقطاب الشباب.