جاء تقرير مجموعة الأزمات الدولية للعام 2024 تحت عنوان "القضاء على عنف المستوطنين الإسرائيليين من جذوره"، متناولًا جذور العنف الذي يمارسه المستوطنون ودوافعه وأسباب تسارعه واتساعه مؤخرًا، وارتباطاته بأهداف الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، وتداعياته على الجهود الرامية إلى تحقيق سلامٍ عادل ومستدام بين "إسرائيل" والفلسطينيين.
واقترح التقرير على القوى الخارجية المستثمرة في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أن تعمل على فرض عقوبات على المستوطنين العنيفين، ليس بتسليط عقوبات فقط على الأفراد، وإنما باستخدام نفوذها لدى إسرائيل: المساعدات العسكرية والعلاقات الاقتصادية - للمساعدة في كبح هذا الخطر المتزايد. كما بدأت بعض الدول الغربية فعل ذلك.
الجذور البعيدة للاستيطان
حدد تقرير مجموعة الأزمات الدولية جذور الاستيطان باحتلال إسرائيل الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان عام 1967، حينها برر حزب العمل الحاكم وقتها بناء المستوطنات في تلك الأراضي باعتباره إجراءً أمنيًا ويوفر عمقًا إستراتيجيًا لإسرائيل، ويعطي مفاوضيها نفوذًا فيما يتعلق بوضع الأراضي.
ويلاحظ تقرير مجموعة الأزمات الدولية أنه: "مع أنّ إسرائيل زعمت أنها لا تصادر الأراضي إلا بأمرٍ عسكري ولأغراض أمنية بحتة، فإن العديد من البؤر الاستيطانية المصادرة بأمرٍ عسكري أصبحت مأهولةً نهاية المطاف بمدنيين إسرائيليين، ثم بدأت مجموعة من المستوطنين المدفوعين أيديولوجيًا في بناء مستوطنات دون إذن من الحكومة، وهو ما انتهى في كثير من الحالات إلى القبول ثم الحماية والتبرير لممارسة تُعرف باسم فرض الحقائق على الأرض وفرض الأمر الواقع".
يُعرّف تقرير مجموعة الأزمات الدولية عنف المستوطنين بأنه: الطرق التي يستخدمها الإسرائيليون الذين يعيشون في الضفة المحتلة لإرهاب وإيذاء الفلسطينيين
وعن مراحل هذا الاستيطان المشؤوم، يقول التقرير، إنه: "تم تحديد العقيدة التوجيهية للاستيطان بخطة ألون في تموز/يوليو 1967، والتي سميت باسم ييغال ألون، وهو جنرال شغل منصب نائب رئيس الوزراء بعد حرب عام 1967، وقد أوصت بأن تحتفظ إسرائيل بكلٍّ من وادي الأردن وممر القدس، أو المرتفعات المحيطة بالقدس الشرقية الفلسطينية".
لكن، وبسبب الرفض الدولي، أصبح التخفي هو الشعار، لتُصدر رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير تعليماتها لوزراء حكومتها: "بالتوقف عن الكلام من أجل وطننا والتحدث أقل والقيام بأقصى ما يمكن"، ثم اكتسبت حركة الاستيطان الشرعية الدولة عندما تولى حزب الليكود السلطة عام 1977.
وبحسب تقرير المجموعة الدولية، فقد كانت: "حكومة حزب العمل برئاسة إسحاق رابين عام 1992 هي الأولى والوحيدة التي اتخذت خطواتٍ أولية ملموسة للحد من التوسع الاستيطاني، ولكن المعارضة اليمينية بدأت تشعر بالخيانة وروجت بقوة لأجندة "إسرائيل الكبرى" التي تمتد من نهر الأردن إلى البحر المتوسط عبر الضفة المحتلة".
ومؤخرًات، ترصد مجموعة الأزمات الدولية بدْء منظماتٍ مثل "أمانة"، وهي جمعية تعاونية غير حكومية تشكل الذراع الأكثر فعاليةً للحركة الاستيطانية، في إنشاء "بؤرٍ استيطانية رعوية" بالمنطقة (ج) التي تشكل 60% من الضفة، والتي تخضع بموجب اتفاقيات أوسلو للسيطرة الإسرائيلية الكاملة.
دوافع عنف المستوطنين
يُعرّف تقرير مجموعة الأزمات الدولية عنف المستوطنين بأنه: "الطرق التي يستخدمها الإسرائيليون الذين يعيشون في الضفة المحتلة لإرهاب وإيذاء الفلسطينيين، وهو بذلك يشمل مجموعةً من الممارسات تتمثل في: التعدي على الأراضي ومصادر المياه، وإشعال النار في السيارات والمنازل والممتلكات الأخرى، وسرقة الماشية أو إيذائها، وحرق وقطع أشجار الزيتون، وتخريب الكنائس والمساجد وإطلاق النار على المدنيين، إضافةً إلى المضايقة والترهيب والإساءة".
وحول دوافع هذا العنف تحدث التقرير عن دافعين رئيسيين وراء عنف المستوطنين الممنهج هما: الانتقام والسلب في أعقاب أي "عنف" يمارسه الفلسطينيون. أما الدافع الآخر الأكثر جوهريةً بالنسبة للمستوطنين هو طرد الفلسطينيين من الضفة والاستيلاء على أراضيهم، وخاصةً في المنطقة (ج).
وبحسب التقرير الدولي، فإن قطاعًا كبيرًا من المستوطنين في الضفة، يبررون اختيارهم العيش في الأراضي المحتلة بمجموعة من الآراء، بينها: "رفْض مفهوم الضفة الغربية باعتبارها يهودا والسامرة التوراتية، أو أنها جزءٌ من التراث القديم للشعب اليهودي، أو أنها ببساطة جزء من دولة إسرائيل الحديثة".
ويؤكّد المحلل الإسرائيلي ميراف زونسزين، وهو المساهم الرئيسي في التقرير أنّ: "عنف المستوطنين وصل إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، حيث يقوم المستوطنون الإسرائيليون بمضايقة وإرهاب وقتل الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة بأعداد أكبر وبتكرار وحماس أكبر".
ويضيف زونسزين قائلًا إنه: "يتم تشجيع المستوطنين من قبل حكومةٍ ملتزمة بتعميق السيطرة على الضفة وإحباط الدولة الفلسطينية. ولوقف عنف المستوطنين، يجب على الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى استهداف ليس فقط المستوطنين الأفراد ولكن الكيانات والسياسات الحكومية التي تدعم المشروع الاستيطاني".
العقوبات ضد الأفراد تحجب جوهر المشكلة
تسامحت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مع عنف المستوطنين الذي تصاعد بشكلٍ كبير منذ أواخر عام 2022، عقب تولي حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو السلطة، واشتد هذا العنف واستفحل بشكلٍ أكبر: "بعد الهجوم الذي قادته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023".
لاشكّ أنّ الحرب هي أخطر ما يمكن أن يقع وتحتل مهمة إنهائها كل الأولويات، لكن العدوان الإسرائيلي على غزة، حوّل الانتباه عن العنف المنهجي المتزايد الذي يمارسه المستوطنون على الفلسطينيين في الضفة المحتلة، حيث أصبحوا على نحو متزايد يتصرفون بالتنسيق مع الجيش ويرتدون الزي العسكري بأنفسهم، متمتعين بدعمٍ نشطٍ من وزراء الحكومة اليمينيين المتطرفين، وعلى رأسهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير.
وينتقد تقرير مجموعة الأزمات الدولية، طريقة الدول في التعامل مع عنف المستوطنين، عبر فرض عقوباتٍ على الأفراد، فهذا النهج: "يحجب جوهر المشكلة، ويعزز الرواية القائلة إن عددًا قليلا من المخالفين للقانون يتصرفون خارج نطاق سلطة الدولة، وبالتالي على العواصم الغربية التي تتفق في الغالب على أن المستوطنات تنتهك القانون الدولي أن تذهب إلى أبعد من ذلك"، حسب التقرير الذي يخلص إلى أن مشروع الاستيطان وما يقابله من حرمان الفلسطينيين من ممتلكاتهم يقتلان ببطءٍ أي أملٍ في التوصل إلى حلٍّ دائم للصراع.
ويؤكد التقرير في خاتمته أنّ: "الإفلات من العقاب الذي يتمتع به المستوطنون وكون القادة الإسرائيليين المتشددين والحكومة ذاتها لا يدفعون ثمنًا لفشلهم، لا يهدد فقط بتفاقم الصراع، بل إنه قد أدى مع مرور الوقت لتمكين أكثر العناصر تمردًا على القانون بالمجتمع الإسرائيلي".