في إطار تقديمه لكتاب زيغمونت باومان "الحداثة والهولوكوست"، يُورِد المفكّر العربي عزمي بشارة عن الفكرة الأساسية التي وصل إليها باومان في كتابه، من حيث اكتشافه بأنّ كارثة إبادة يهود أوروبا (الهولوكست) ليست استثناءً أو انقطاعًا في سيرورة الحداثة، أو التاريخ بشكل عام، وليست نوبة جنون أصابت فئات من المجتمع الحديث.
يؤكّد بشارة في مقدمته التي تجيء بعنوان "الحداثة وآليات تحييد الأخلاق" بأنّ باومان وضّح بأنّ الباحثين في العلوم الاجتماعية تنتابهم مخاوف شديدة في كلّ مرة يُفكرون فيها في البحث في موضوع الإبادة الجماعية التي طالت يهود أوروبا، وأنّ تلكَ المخاوف لديهم ترجع إلى اقتناعهم بأنّ بحثهم في الموضوع قد يوصلهم إلى نتيجة هي أنّ الهولوكست هي أكثر من مجرّد شذوذ أو مرض، وأنّ ظاهرة الإبادة الجماعية في الحضارة الغربية الحديثة ليست وجهًا مناقضًا لهذه الحضارة، بل هي جزء أساسي منها، فبحسب باومان يخشى الباحثون أن يكتشفوا أنّ وجه الحداثة البهي الذي يُعجبهم ربّما ما كان له أن يوجد دون هذا الوجه الآخر المظلم منها.
يُورد بشارة بأنّ باومان ينظر إلى ظاهرة الإبادة الجماعية باعتبارها ظاهرة متكرّرة في الحداثة الغربية، ويَعتبر بأنّ التوفّر الدائم للبيروقراطية التي هي سمة جوهرية من سمات الحداثة، يمثّل عاملًا مساعدًا لوقوع الإبادة.
يَطرح بشارة في إطار حديثه عن نظرة باومان إلى الإبادة الجماعية في الحداثة الغربية سؤالًا حول السياق البيروقراطي الذي يتوفّر دائمًا لمرتكبيها، ويُمكّنهم من تحييد شامل لأخلاقهم أو قمعها عند التعامل مع الآخر الذي يرتكبون الإبادة فيه.
ظاهرة الإبادة الجماعية في الحضارة الغربية الحديثة ليست وجهًا مناقضًا لهذه الحضارة، وليست حالة شاذة في سياقها التاريخي، بل هي جزء أساسي منها
ينقل بشارة عن باومان تأكيده بأنّ السياق البيروقراطي الذي يتوفّر لمرتكبي الإبادة الجماعية، ويُمكّنهم من تحييد أخلاقهم بشكل كامل عند التعامل مع الآخر العدو هو سياق له ثلاث مرتكزات؛ أولها حصول مرتكب الإبادة على تفويض باستخدام العنف في حدوده القصوى من خلال الأوامر الجماعية الصادرة عن الجهات القانونية المعنية، وثانيها تمكين المرتكب من تنميط عمله عبر الممارسات النظامية والتوزيع الدقيق للأدوار، وثالثها زرع الأوهام في رأس المرتكب حول الضحية، وإقناعه بتجريدها من الصفات الإنسانية بواسطة التعريفات والمذاهب الأيديولوجية.
يُفنّد بشارة المرتكز الثاني ويقول بأنّ البيروقراطية قادرة على ارتكاب جرام الإبادة، لأنّ التقسيم التراتبي والوظيفي للجرائم المرتكبة ضمن عملية الإبادة الجماعية، يؤدي إلى تكريس الفصل البيروقراطي بين الأخلاق والغايات، حيثُ إنّه يؤدي إلى تحويل شعور مرتكبيها من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية عن غايات وظيفتهم إلى الشعور بالمسؤولية التكنيكية الإجرائية عن إتمام الوظيفة على الوجه الأمثل.
ويُورِد بأنّ تعزيز الشعور بالمسؤولية التكنيكية الإجرائية، على حساب المسؤولية الأخلاقية، يدفع بمرتكبي كلّ وظيفة من وظائف الإبادة إلى الحرص على إتقان العمل وإنجاز المهمة المحدّدة بين أيديهم، وهو ما يؤدي إلى تغييب حقيقة كونهم جزءًا من عملية إبادة جماعية عن أذهانهم.
وعن المرتكز الثالث يقول بشارة: "شيطنة الضحية، وهي، في اعتقادي، شرط رئيس لإدارة العجلة بشكل عامٍ ولتحييد الضمير؛ إنها الشيطنة بمعنى تجريد الضحية من الصفات الإنسانية، وهذه تكون بواسطة عمليات التصنيف والتعريف التي تقسم المجتمع إلى أصنافٍ من البشر. وهي عملية جارية منذ بداية الحداثة، لكن التصنيفات تصبح خطِرة جدًا حين تقف خلفها أيديولوجيات تصنّف الآخر بوصفه مختلفًا جوهريًا وحاملًا صفاتٍ دونية، أو إذا ما عُدَّ غريبًا إلى درجة تُصعّب التضامن معه".
لعلّ السياق البيروقراطي الذي نظّر له باومان باعتباره سياقًا يُمكّن مرتكبي الإبادة الجماعية من تحييد أخلاقهم بشكل كلي عند التعامل مع الآخر الذي يعتبرونه عدوًا، هو ذاته السياق الذي تتمّ فيه الإبادة الجماعية في غزة منذ بداية الحرب عليها، وهو سياق استمع فيه قادة العالَم الغربي - وما زالوا - إلى تصريحات شيطنة الفلسطينيين وإخراجهم من بشريتهم ووصفهم بأنّهم "حيوانات بشرية"، دون أن يُفكّر واحد منهم بالوقوف عندها ومساءلتها مساءلة جادة، لا باعتبارها ألفاظًا قيلت في لحظة غضبٍ إسرائيليٍ عابر، بل باعتبارها سياقات لغوية بيروقراطية جاءت كممهّد لكلّ ما جرى ويجري ارتكابه من جرائم ومجازر بحقّ مدنيي غزة وأناسها وطواقم أطبائها وصحافييها ومستشفياتها؛ وكلّ ما فيها.