يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي لليوم السادس والعشرين على التوالي الاجتياح البري وحرب الإبادة الجماعية في شمال قطاع غزة، وتحديدًا في مدينة جباليا ومخيمها، حيث يمحو الجيش مظاهر الحياة في المنطقة. ويؤكد فلسطينيون وجود مخطط لاحتلال شمال غزة، وتحويله إلى منطقة عازلة وتهجير المواطنين، تحت قصف دموي مكثف وحصار مطبق يمنع دخول الغذاء والماء والأدوية.
هذه هي المرة الثالثة التي يجتاح فيها جيش الاحتلال جباليا منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بعدما اجتاحها سابقًا في كانون الأول/ديسمبر من العام ذاته، ثم في أيار/مايو الماضي
وقد خلّفت هذه الإبادة الجماعية في شمال القطاع نحو ألف شهيد ومئات الجرحى والمعتقلين، بالإضافة إلى تدمير أحياء سكنية كاملة وتهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين جنوبًا، وفق أرقام رسمية فلسطينية؛ كما جرى إخراج المنظومتين الصحية والإغاثية عن الخدمة بالكامل، وتعطيل آبار المياه والمرافق الحيوية، ضمن سلسلة جرائم يقول الفلسطينيون إن هدفها هو التهجير.
رغم تشابه الآثار الكارثية للعمليات العسكرية بمختلف مناطق قطاع غزة، إلا أن ثمة فروق واضحة بين العملية العسكرية الراهنة وسابقاتها
ورغم تشابه الآثار الكارثية للعمليات العسكرية بمختلف مناطق قطاع غزة، إلا أن ثمة فروقًا واضحة بين العملية العسكرية الراهنة وسابقاتها منذ بدء الإبادة الجماعية قبل أكثر من عام، وتترجم هذه الإبادة ما تُعرف إسرائيليًا بـ"خطة الجنرالات"، الرامية إلى تهجير سكان شمال غزة، لا سيما عبر حرمانهم من المساعدات الإنسانية.
ومع تتابع أيام الإبادة في شمال غزة، اتضح أن مخيم جباليا وضواحيه هو الهدف الرئيس لخطة التهجير، إذ تتنوع فيه عمليات جيش الاحتلال بين التوغل البري والقصف المدفعي والغارات الجوية، وتدمير المنازل والمنشآت المدنية والبنية التحتية والخدمات الأساسية.
بداية الإبادة الجماعية للشمال
في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، وفي عملية مباغتة، تسللت قوات خاصة لجيش الاحتلال وطوقت جباليا ومخيمها من جهتي الشرق والغرب، تزامنًا مع عشرات الغارات الجوية والأحزمة النارية. واستفاق فلسطينيو شمال غزة في اليوم التالي على منشورات ألقتها مُسيّرات الاحتلال تنذرهم بالنزوح إلى ما زعمت أنها "منطقة إنسانية" في مواصي خانيونس جنوبي القطاع.
وقال متحدث باسم جيش الاحتلال: "نحن الآن في مرحلة جديدة، وعليكم النزوح فورًا.. الجيش سيضرب جباليا بقوة شديدة جدًا، وسيعمل في المنطقة لفترة طويلة". لكن خلافًا لما أعلن، لم يمهل جيش الاحتلال المواطنين فترة كافية للنزوح، وسرعان ما أغلق الطرق الواصلة بين شمال غزة ومدينة غزة بتدمير بنايات سكنية وإغلاق الطرق بركامها.
استهدف جيش الاحتلال النازحين في تلك الطرق بنيران وقذائف، ما أدى إلى مقتل العديد منهم، واكتمل تطويق منطقة الشمال كاملة، وفي قلبها جباليا، ومنع الدخول والخروج منها منذ اليوم التالي لبدء هذه الإبادة. كما فجّر جيش الاحتلال عشرات المنازل والبنايات في جباليا ومحيطها عبر "روبوتات" مفخخة وبراميل متفجرة، ما دمّر أحياء سكنية كاملة وقتل وجرح العديد من المواطنين.
وأعاق جيش الاحتلال عمل الطواقم الطبية والدفاع المدني في انتشال الجرحى وجثامين الشهداء، عبر استهدافهم المباشر عند الاقتراب من المناطق المستهدفة، متبعًا أسلوبًا جديدًا بمحاصرة مراكز إيواء النازحين والمدارس في جباليا ومخيمها وبيت لاهيا وبيت حانون، وإجبار من فيها على النزوح، ثم حرقها وتدميرها، واعتقال العديد من المدنيين والتنكيل بهم.
لم يكتفِ جيش الاحتلال بذلك، بل لاحق من أصرّ على البقاء في منازلهم، وشنّ غارات دموية على مربعات سكنية مأهولة، ما أسفر عن سقوط مئات الشهداء والجرحى، كما عمد إلى إخلاء أحياء سكنية عدة عبر حصارها وتوجيه السكان للخروج من منازلهم والتوجه قسرًا إلى مسارات محددة للنزوح جنوبًا.
وحاصر جيش الاحتلال المستشفيات الثلاثة العاملة في شمال غزة، وهي "كمال عدوان، الإندونيسي، والعودة"، وأخرجها عن الخدمة بالكامل، مع استهداف مركبات الإسعاف والدفاع المدني، التي باتت عاجزة عن تقديم الخدمة، واعتقل عددًا من كوادرها. واقتحم لاحقًا مستشفى "كمال عدوان" ونكّل بالطاقم الطبي والمرضى.
🎥 طوابير طويلة للحصول على ربطة خبز في #خانيونس. pic.twitter.com/D1PGIpo0qW
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) October 30, 2024
يأتي ذلك في ظل تجويع متعمد انتهجه جيش الاحتلال قبل بدء الاجتياح بأسبوعين، حيث أوقف دخول شاحنات المساعدات والمواد الغذائية إلى شمال غزة تمامًا، ومنع إدخال الوقود والمعدات الطبية. وأظهرت إحصائية من وزارة التنمية الاجتماعية بغزة تقلص عدد شاحنات المساعدات المسموح بمرورها إلى الشمال بنسبة 27% بين تموز/يوليو وأيلول/سبتمبر الماضيين، وصولًا إلى توقفها بالكامل منذ مطلع تشرين الأول/أكتوبر الجاري.
ويعيش الفلسطينيون الباقون في منازلهم أو المباني التي نزحوا إليها في شمال غزة أوضاعًا مأساوية، ووفقًا للدفاع المدني في غزة، يبلغ عددهم نحو مئة ألف مدني، وسط ترقب لوصول جيش الاحتلال في أي لحظة وتهجيرهم بالقوة، في ظل صعوبة بالغة في الحصول على غذاء أو ماء أو دواء.
وتؤكد المعطيات السابقة أن الاجتياح الراهن لجباليا يختلف تمامًا عن كل ما سبقه، وأن السلوك العملياتي لجيش الاحتلال يتوافق مع ما تم تسريبه حول تنفيذ "خطة الجنرالات"، ما يطرح تساؤلات بشأن القيمة التي يمثلها مخيم جباليا للفلسطينيين في شمال غزة، ولماذا جاء في صلب أهداف جيش الاحتلال لتنفيذ خطة التهجير؟
لماذا تركز إسرائيل على احتلال جباليا؟
يقع مخيم جباليا ضمن نطاق مدينة جباليا إلى الشمال من مدينة غزة، ويعد العمود الفقري لمحافظة الشمال، وأكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجّروا من بلداتهم الأصلية إلى القطاع إبان نكبة عام 1948. ورغم مساحته الصغيرة التي لا تتجاوز 1.5 كم²، إلا أنه يضم كتلة سكانية من الأكثر اكتظاظًا في القطاع، ويحيط به بلدات مثل بيت لاهيا وبيت حانون.
لطالما شكل مخيم جباليا جبهة محورية في مسار النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي؛ ففيه انطلقت شرارة الانتفاضة الأولى "انتفاضة الحجارة" عام 1987، التي امتدت إلى سائر مناطق قطاع غزة عبر التظاهرات الشعبية والاشتباك مع جيش الاحتلال بإلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة.
ومع اندلاع الانتفاضة الثانية "انتفاضة الأقصى" عام 2000، كان للاجئين دور بارز عبر تشييع الشهداء والانطلاق صوب مواقع جيش الاحتلال، ثم تطورت أدوات المقاومة لتشمل إطلاق النار وحفر الأنفاق، ما أدى في النهاية إلى انسحاب الاحتلال من غزة في أيلول/سبتمبر 2005.
🎥 "كل شمال #غزة يموت، الأطفال يدفعون الثمن".. شاب غزيّ يوجه رسالة إلى العالم أثناء نقله لشهيد. pic.twitter.com/KARwy4112i
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) October 30, 2024
وخلال سنوات الانتفاضة، أدرك الاحتلال الإسرائيلي القيمة التي تمثلها جباليا في الحالة الثورية الفلسطينية، فكان للمخيم نصيب من الاجتياحات المتكررة لجيش الاحتلال، والتي هدف من ورائها محاولة إخماد الانتفاضة المشتعلة، وقتل أكبر عدد من نشطاء الفصائل الفلسطينية الذين اجتذبوا آلاف الشباب إلى الأجنحة العسكرية لتلك الفصائل.
ومثل سائر مخيمات ومدن في غزة، اجتاح الجيش الإسرائيلي جباليا ومخيمها مرات عديدة بين عامي 2001 و2003، إلا أن المواجهة الأبرز كانت قبل 20 عامًا، وتحديدًا مع نهاية أيلول/سبتمبر ومطلع تشرين الأول/أكتوبر 2004.
وأطلق جيش الاحتلال على عمليته حينها مسمى "أيام الندم"، ردت عليه فصائل المقاومة الفلسطينية بإطلاق عملية "أيام الغضب"، وشملت بلدات جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، واستمر اجتياح جيش الاحتلال 17 يومًا، مخلفًا ما يزيد عن 160 شهيدًا فلسطينيا ومئات الجرحى، ومُني فيها جيش الاحتلال بخسائر بشرية ومادية عديدة.
الملجأ في الحروب
خلال الحروب السابقة التي شنتها إسرائيل على غزة في أعوام 2008-2009، 2012، 2014، و2021، استقبل مخيم جباليا النازحين من سكان البلدات الحدودية المحيطة، حيثُ لجأ إليه فلسطينيون من بيت لاهيا وبيت حانون وعزبة عبد ربه وحيّي الكرامة والتوام وغيرها، باعتباره المنطقة الدافئة البعيدة نسبيًا عن مسرح العمليات البرية لجيش الاحتلال.
منصات التواصل الاجتماعي باتت مساحة يروج فيها جنود الاحتلال لأفعالهم التي تشجع على ارتكاب المزيد من جرائم الإبادة، بحسب مركز "صدى سوشال".
اقرأ أكثر: https://t.co/XxuercrB0f pic.twitter.com/rJgTw2OYe2— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) October 30, 2024
ومع بدء حرب الإبادة الإسرائيلية الحالية، وخلال الأيام الأولى التي شهدت اشتداد القصف الإسرائيلي جوًا وبرًا وبحرًا، تعزز دور المخيم وسكانه في احتضان النازحين وإيوائهم، وإمدادهم بمستلزمات الإغاثة، مشكلًا عمقًا جغرافيًا لسائر سكان محافظة شمال غزة في تعزيز صمودهم وتحدي المخططات الإسرائيلية في التهجير.
وتشير تقديرات السلطات المحلية إلى بقاء نحو 400 ألف فلسطيني بمحافظتي غزة والشمال، إذ يرفضون الإنذارات بالإخلاء القسري، ما يشكل عائقًا أمام خطط التهجير.
واليوم، تقف جباليا ومخيمها أمام مفترق طرق في مسار حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال. ويرى مراقبون أن المعركة في جباليا تمثل اختبارًا حاسمًا لاحتمالات تهجير مواطني قطاع غزة؛ ففي حال نجاح خطة التهجير، قد تُطبق على سائر مناطق الشمال ومدينة غزة لاحقًا.