كان الإخفاء القسري "جريمة ضد الإنسانية" -وفقًا للمواثيق الدولية- شائعة في البلدان العربية، طال الآلاف من الأبرياء، فتستخدمه الديكتاتوريات أسلوبًا ممنهجًا لبث الرعب داخل المجتمع، بالإضافة إلى توظيفه كوسيلة فعالة لسحق الخصوم السياسيين والناشطين، فالشعور بغياب الأمن الذي يتولد عن هذه الممارسة ،لا يقتصر على أقارب المختفي، بل كذلك يصيب مجموعاتهم السكانية المحلية ومجتمعهم ككل.
خلال فترة ما بعد الاستقلال وحتى التسعينات، عاش المغرب عهدًا قاسيًا من الانتهاكات الجسيمة، وعلى رأسها الإخفاء القسري
وليس المغرب في ذلك استثناءً، فقد عرف في إحدى فتراته انتهاكات حقوقية جسيمة، استخدم فيها الإخفاء القسري على نطاق واسع، لا زالت تلك الفترة تلقي بظلالها على البلاد إلى الآن.
اقرأ/ي أيضًا: حقوقيون.. وضعية حقوق الإنسان قاتمة في المغرب
حصل المغرب على استقلاله سنة 1956، وكان من المفترض أن يبدأ مرحلة جديدة ملؤها التنمية والديموقراطية تحتفي بحرية الوطن من المستعمر بعد عقود من الاستغلال، لكن وقع عكس ذلك تمامًا، فدخلت البلاد منذ تلك اللحظة وحتى التسعينات، في صراعات سياسية مريرة و أحداث دامية كلفت حياة الكثير من الأرواح، وزرعت الخوف والهلع في نفوس الناس، وخلفت تخلفًا مزمنًا على جميع الأصعدة، ولهذا سميت تلك الحقبة بـ"سنوات الجمر والرصاص".
خلال تلك الفترة كانت السلطة تواجه معارضة سياسية شديدة، من قبل الأحزاب اليسارية، فتعرض الكثير من المعارضين والناشطين السياسيين إلى التنكيل في السجون، فيما ظل مصير آخرين مجهولًا بعد تعرضهم للإخفاء القسري، كما حدث مع المعارض السياسي المعروف، المهدي بن بركة، الذي أسس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عام 1959 بعد انشقاقه عن حزب الاستقلال، وبسبب معارضته للسياسات الحكومة، وفي ظل أجواء القمع والملاحقات الأمنية، اختار السفر خارج البلاد.
وظهر يوم الجمعة 29 تشرين الأول/أكتوبر 1964، اختطف المهدي بن بركة على مقربة من مقهى "ليب باريس"، على يد رجال أمن فرنسيين، حيث تأكد تواجد مسؤولين كبار بأجهزة الدولة المغربية بفرنسا عشية يوم اختطافه وغداته، إلا أن الادعاء الفرنسي فتح تحقيقًا بالمحكة الجنائية بباريس سنة 1967، وكشف أنه تم تهريب الفرنسيين ذوي السوابق إلى المغرب، ولحد الآن لا يزال مصير المهدي بن بركة غير معروف رغم المطالبات الحقوقية المتوالية.
لم يقتصر الإخفاء القسري على الناشطين اليساريين، بل طال أيضا ضحايا القمع المفرط لأحداث احتجاجية شعبية، كالشأن مع أحداث آذار/مارس 1965 بالدار البيضاء، بالإضافة إلى المرتبطين بتداعيات الانقلابات العسكرية والاشتباكات المسلحة.
كانت مجموعة من الأماكن السرية العسكرية والأمنية، مسرحًا لعمليات الإخفاء القسري، لعل أشهرها معتقل تازمامارت ومعتقل مكونة ومعتقل أكدز، ومركز الشرطة بالرباط، والمعروف بـ"الكومبليكس"، ومطار آنفا بالدار البيضاء، ومفوضية الشرطة بدرب مولاي الشريف بالدار البيضاء، ودار "بريشة" بتطوان.
ومع فترة التسعينات، بدأ مسلسل انفراج سياسي لتحسين صورة المغرب في الخارج، بعد سنوات الاحتقان التي عرفتها عقود ما بعد الاستقلال من صراع مع المعارضة وانتهاكات ممنهجة ضد الناشطين السياسيين والحقوقيين، حيث أنشئت هيئة الإنصاف والمصالحة، التي كلفت بتسليط الضوء على مصير ضحايا الإخفاء القسري وتعويض الضحايا أو ذويهم وتحقيق العدالة الانتقالية، وعقدت جلسات استماع، باح خلالها الضحايا وأهاليهم بقصصهم المروعة التي صدمت الرأي العام الدولي.
وبلغ عدد الضحايا الذين كانوا في عداد مجهولي المصير، وكشفت هيئة الإنصاف والمصالحة عن مصيرهم، 917 شخصًا، من بينهم 230 رجلًا و68 امرأة، تم الإفراج عنهم بعد تعرضهم لاختفاء قسري طويل الأمد، فيما لقي 619 شخصًا حتفهم خلال ما تعرضوا له من انتهاك، من بينهم 59 طفلًا و21 امرأة. وقد أقرّت هيئة الإنصاف والمصالحة بمسؤولية الدولة عن الانتهاكات التي تعرض لها الضحايا، بما في ذلك الإخفاء القسري.
ولاقت هذه المبادرة التصالحية التي أطلقتها الدولة استحسانًا دوليًا وحقوقيًا، فخففت على الأقل وطأة ألم الأهالي، الذين كانوا يتجرعون المعاناة في صمت، بعد أن باتوا على علم بمصير أفراد عائلاتهم وحيثيات اختفائهم. وتحسن الموقف الحقوقي المغربي أكثر عندما صادق مجلس النواب سنة 2012 على الانضمام للاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، ليصبح ملزمًا بالقطع نهائيًا مع هذه الجريمة.
نهاية غير مكتملة الأركان
بالنسبة لبعض الحقوقيين فإن ملف الإخفاء القسري في المغرب، لم يطو بعد بشكل كامل، و ما يزال مفتوحًا، على اعتبار أن "العشرات من مختطفي سنوات الرصاص ما يزال مصيرهم مجهولًا، وعائلاتهم تنتظر كشف الحقيقة"، كما يقول عضو لجنة التنسيق لعائلات المختطفين مجهولي المصير وضحايا الاختفاء القسري بالمغرب، عبد الكريم المانوزي، مضيفًا أن "مشكل الإفلات من العقاب هو الذي يحول دون الكشف عن الحقيقة كاملة وتحديد المسؤوليات".
وحسب الجهات الحقوقية المحلية، فإنه لا يزال هناك 60 شخصًا من ضحايا الإخفاء القسري لا يعرف مصيرهم. وكان فريق أممي معني بالإخفاء القسري، قد أعلن سنة 2016، أثناء زيارته للمغرب، عن تلقيه 80 شكاية من عائلات مختفين قسريًا مغاربة، تخص حالات لم يتم التوصل بخصوصها إلى معلومات كافية.
أثناء زيارته للمغرب في 2016، تلقى فريق أممي معني بالإخفاء القسري، 80 شكوى من عائلات مختفين قسريًا لم يتوصلوا لمعلومات عن ذويهم
ويقر الحقوقي، عبد الكريم المانوزي، بأن الاختفاء القسري بالشكل الذي كان عليه في "سنوات الرصاص" لم يعد موجودًا، إلا أنه يؤكد في نفس الوقت "استمرار عدد من الانتهاكات في حراك الريف، بما فيها الاختطاف والإخفاء" على حد تعبيره، فيما تعزو السلطات ذلك لحالات فردية وليس لسياسة رسمية ممنهجة.
اقرأ/ي أيضًا:
حراك الريف.. انتهاكات الأمن مستمرة بتعذيب المعتقلين داخل السجون