معظم أفراد هذا المجتمع يعانون فصامًا شديد الوطأة بين شخصين موجودين في داخل كلّ منهم: الكامل النظري والناقص المادي.. فلا هذا يتوارى من أجل أن يفسح المجال للآخر، ولا ذلك يتغلب على الآخر ليعلن سيطرته بشكل كامل.
المطلوب هو السعي للاكتمال، وليس الاكتمال في حد ذاته، فهو غاية مستحيلة لن تتحقق، لكن السعي إليه غاية ووسيلة معًا
شخصان يستمتعان بحياتيهما في إنسان، وإنسان يتمزّق بين شخصين. الإنسان هو الأصل الحاوي للفرعين، ولكن الفرعين أعتى وأقوى من الأصل نفسه لأن سلامهما البيني تسبّب في مشكلة داخلية كبيرة للأصل. السلام ليس دائمًا شيئًا جميلًا، فهناك سلام مدمِّر، وهناك حرب خلّاقة.
اقرأ/ي أيضًا: الإنسان بين الحرية والتكليف
حتى عندما ننظر إلى الملتزمين بحقّ في مجتمع مدّعٍ للالتزام فسنجد أنهم لم يسلموا من الفصام، ربما يبدو لأول وهلة أنهم يعانون صراعًا خارجيًا فقط مع من حولهم ولكنهم مستقرون داخليًا، وفي الحقيقة إن صراعاتهم الخارجية تنعكس بالضرورة على داخلهم بشكل مستمر، تزعزع وتنقض أساس استقرارهم، فالضغوط هائلة، والفتنة كبيرة، والحقيقة وإن كانت واضحة الوجه بداخلهم فإنها على أرض الواقع مبهمة ومختفية ومتوارية بين ألف ألف وجه يشبهها تمامًا كالتوأم المتماثل، ربما يشبهها أكثر من نفسها..
هؤلاء وإن كان فصامهم جزئيًا ينشط عند نشاط الشك ويخمد عند غلبة الحقيقة، لكنه معذِّب ومؤلم أكثر من الصنف الأول لأنه مدجج بالضغوط الشديدة، ولأنه يأتي لصاحبه وهو في كامل وعيه، كالجراحة دون تخدير.
هكذا، نجد أن الفصام الفردي المتفشي في معظم أفراد هذا المجتمع قد أدى إلى الفصام المجتمعي بشكل عام، فالمجتمع ككتلة واحدة يعاني حالات بكائية على أمجاد لم تعد توجد وربما لم توجد أصلًا، المجتمع ككتلة واحدة يعاني انتفاخ كاذبًا وإحساسًا وهميًا بالأفضلية التي لا تملك حيثية واحدة تدعمها، وفي الوقت نفسه فالمجتمع ككتلة واحدة يعاني من الإحساس بالدونية والضعف والتضاؤل أمام المؤامرات الكونية المتوهَّمة، المجتمع ككتلة واحدة هو أصلًا ليس كتلة واحدة.
هذا المجتمع كنموذج وإن كان يدّعي أو يتوهم في نفسه الوحدة، فهو في الحقيقة عدد من المجتمعات المختلفة والمتناقضة تعيش في مجتمع واحد، فالفصام الشخصي الناخر في جذع الفرد تجسّد وتضخّم ليتحول إلى فصام عام يعانيه المجتمع ككل، فتراه مجتمعا يتوهم التحفظ و الالتزام وهو متحلل أخلاقيًا حتى النخاع، يتوهم الرفعة والأفضلية وهو ذليل مهان، يتوهم التضامن والتكاتف وهو منقسم منفصم، وكلما مر الوقت في ظل هذا التخبط تصبح الهوّة بين الواقع والوهم شاسعة فسيحة تصعب لملمتها، فالمشكلة الكبرى أن هذا المجتمع في الغالب لا يشعر بوجود مشكلة، وإن شعر فلا آلية ولا طاقة ولا وعي ولا إرادة حقيقية للإصلاح.
مشكلة هذا المجتمع أنه لا يشعر بوجود مشكلة انفصام في ذاته، وإن شعر فلا آلية ولا طاقة ولا وعي ولا إرادة حقيقية للإصلاح
هذا المجتمع هو مشروع لمجتمع ملتزم حقًّا بالتكليف بشرط حل أو حتى السعي في محاولة حل تلك المشكلات على صعوبتها الهائلة.. وربما وُجِدت نماذج لمجتمعات كهذه على الأرض في الماضي، بالطبع لم ولن يوجد على الأرض مجتمع مثالي وملائكي، ولكن المطلوب هو السعي للاكتمال، وليس الاكتمال في حد ذاته، فالاكتمال غاية مستحيلة لن تتحقق، ولكن السعي إليه غاية ووسيلة معًا، وهو في الحقيقة الجوهر الحقيقي للتكليف، فبالطبع لم يكن منتظَرًا أن يصبح الإنسان ملاكًا، لكن المنتظَر كان سعيه نحو ذلك وإن أخفق، بل إن إخفاقه منتظَر ومطلوب في حد ذاته، ففي الإخفاق عودة للأصل البشري وصحوة من الوهم الملائكي وتجديد للإرادة واختبار للعزيمة وتجلٍّ للرحمة ولحنوّ الإلهي تجاه مخلوقه الحبيب، وفي الإخفاق وقفة وفسحة للاختيار من جديد بين الإكمال والتوغل على صعوبته، أو الإدبار والسقوط في الهاوية المفعمة بالمتع، فالسقوط الحر ممتع رغم كارثيته، والثبات المر مؤلم رغم استقراريته.
اقرأ/ي أيضًا: الإنسان بين الحرية والتكليف: أصل الانفصام
صناعة مجتمع مكتمل وهم، وصناعة مجتمع ساعٍ للاكتمال ممكن، وإخفاقه في سعيه جائز ومطلوب، ومتابعة سعيه بعد إخفاق محمود وممدوح، وسقوطه في الفخاخ وارد ومفهوم، واستسلامه لها مرفوض ومذموم، والإغراق في الاستسلام هو بداية السقوط الحر اللانهائي.
العثرة تختلف عن السقطة، والسقطة تختلف عن السقوط الحر، ففي العثرة تقيُّد بحدود البدن وطبيعة الأرض، وفي السقطة تقيُّد بذات القيود مع زيادة التأثير والألم وزيادة صعوبة استكمال السعي والاحتياج للمزيد من العزم، وفي الحالتين يتوفر العامل الأهم: جاذبية الأرض الثابتة تحت قدميك وارتباط بدنك بها طبقًا لوزنه، كلما زاد ثقلك زاد ثباتك وأصبحت العثرة أكثر حرجًا والسقطة أكثر ألمًا والنهوض من جديد أكثر صعوبة، مع عامل متغير آخر هو سرعتك، كلما كنت أسرع زاد احتمال حدوث العثرات والسقطات، وكلما كنت أبطأ زاد الثبات وقلّت تكاليف السقطات إن حدثت
فسعيك على طريق الاكتمال وإن كان بطيئًا فهو أكثر ثباتًا وتأملًا وفهمًا وتدبرًا للطريق، وسقطتك في البطء سلسة هينة الألم بسيطة الأثر، ووزن وعمق تجربتك الإنسانية والفكرية والتأملية بكل تناقضاتها يزيدك ثِقَلًا طالما وُجدِت الأرض تحت قدميك.
أما عند السقوط الحر فكل شيء يختلف وكل ثابت يتغير، فسرعتك على الأرض ستزيد اندفاعك عند السقوط، وبطؤك سيزيد احتكاك وتمزق جسدك على المنحدر، وزنك الخفيف سيقلل سرعة السقوط الرأسي وإن كان سيسهل عمل الهواء في تخطفك وإلقائك في كل الاتجاهات، ووزنك الثقيل سيزيد سرعة وتركيز سقوطك الرأسي المباشر إلى قاع الهاوية.
عند تخليك عن الأرض الثابتة في طريق سعيك سيحدث السقوط، وعندها فسرعتك على الطريق، التي لم تسمح من قبل بتعميق تجربتك وإعطائك فسحة للتأمل، ستلقى بك بعيدًا عن الحافة حيث لا احتكاك ولا ألم ولا تمزّق، فقط التمتع بالحرية المطلقة لهذا السقوط، وهي متعة مراوغة خاطفة سرعان ما تزول ليحل محلها الخوف والإحساس بالضياع الكامل، فلا مجال لتشبث ولا فرصة لعودة، أما بطؤك، الذي زاد من عمق تجربتك وتأملك وتعلقك بالطريق، فسيجعل سقوطك عذابًا خاليًا من أية متعة ولو خاطفة، سيكون السقوط احتكاكًا بالحافة وتمزقًا للجسد، فلا أنت تستمتع بالسقوط ولا أنت قادر على العودة، تلك الحافة التي تمزقك هي ضميرك ونزعتك النقية التي غذاها سعيك الحثيث الجاد قبل السقوط، والذي لن يسمح لك بالشعور بأية متعة أثناء سقوطك ولن تجد منه غير التأنيب والتوبيخ المر، لكن وإن كان احتكاكك بالحافة يسبب لك التمزق والألم، فإنه يوفر لك فرصة للتشبث والمقاومة، ومن ثم الصعود والعودة إلى الطريق من جديد ..
العثرة تختلف عن السقطة، والسقطة تختلف عن السقوط الحر، ففي العثرة تقيُّد بحدود البدن وطبيعة الأرض، وفي السقطة تقيُّد بذات القيود مع زيادة التأثير والألم
أما عمق تجربتك وثقلها قبل السقوط فسيكون سببًا في سقوطك الرأسي السريع دون التخبط يمينًا ويسارًا مع الرياح، ففي هذه الحالة أنت لست شخصًا غريرًا غير مجرب تجذبك الألوان الزاهية، أنت تسقط فقط، تسقط لأنك تعثرت فسقطت فاستسلمت، وسرعة سقوطك ستزيد من صعوبته ومن ارتياعك ومن مأساوية التأثير، وفرصك في التشبث والعودة شبه معدومة.
اقرأ/ي أيضًا: مجتمع بدون واجهة
وأما ضحالة تجربتك وخفتها فستكون سببًا في تخبطك في كل اتجاه مع كل ريح عابرة، فأنت الغرير غير المجرّب الباحث عن الألوان الزاهية، تحركك رغبتك في اكتشاف كل حفرة وكل فخ، لعلك تجد متعة أكبر أو تجد خلاصا يريحك، تجرب كل شيء وتعتنق أي فكر وتبدله كما تبدل ثيابك، لكن فرصك متوفرة في التشبث والعودة إن وُجدت الإرادة لذلك وإن وُجد السأم مما أنت ساقط فيه على اختلافه وتنوعه.
اقرأ/ي أيضًا: