في الدقيقة التاسعة عشر من فيلم ستانلي كوبريك الأهم 2001: A Space Odyssey نرى ما يمكن الاتفاق على اعتباره أبلغ وأشهر انتقال "Match Cut" في تاريخ الأفلام، به يختصر كوبريك ملايين السنين من تاريخ الإنسان، بلقطتين، متشابهتين في التركيب، متضادتين في المعنى، تصنعان الانتقال المناسب لجعل الحضارة -منذ البدء- مدار الأوديسة، ومعناها الذي تبحث فيه.
لقد نجح كوبريك في تخليد فيلمه A Space Odyssey لأنه بدأه كما أنهاه، دونَ تقديم تفسير لأي شيء، وتلك تقنية كتابية بدأها فرانز كافكا
ينتقل ستانلي كوبريك من عصر القردة البدائية إلى ما بعد عصرِنا هذا، نحن الهوموسيبين، أو إلى ما قبله قليلًا. ولا خلاف على أن كيوبريك من أكثر المخرجين قدرة على التلاعب بالزمن، فينتقل به من أول أيام الإنسان البدائي الغاضب الذي لا يدري أين تنتهي الأرض، إلى ذورة أيام الإنسان المتطور العاقل، الذي يطارد أحلامه في السماء.
عندما تقابل القردة البدائية "المونوليث" لأول مرة في "الأوديسة"، فإنها تلمسه وتتشبث به، فيمنحها الوعي والإدارك والعقل اللازم لصنع الآلة، وتكون تلك الآلة محرك التطور الإنساني، حتى اللقاء القادم مع "المونوليث" الذي يظهر 4 مراتٍ في الفيلم، دون أن نعرف من أين جاء ولا لماذا ولا كيف، وربما تلك أهم نقطة قوة في "الأوديسة" أنها لا تهتم بتقديم التفسيرات، إذ لو فعلت لا نتهى سحرها ولعرف الناس معانيها.
اقرأ/ي أيضًا: هل كان 2016 عام السينما اللبنانية؟ أبرز 8 أفلام تثبت ذلك
لقد نجح ستانلي كوبريك في تخليد فيلمهِ لأنه بدأه كما أنهاه، دونَ تقديم تفسير لأي شيء، وتلك تقنية كتابية عرفها العالم على يد فرانز كافكا، حيثُ تُقَدم الأحداث خالية من أي سياق، مبتورة من محاولات فهمها، معلقة في فضاء رحب من احتمالاتِ التحليل.
يستخدم ستانلي كوبريك تلك التقنية ليوصل أفكاره عن الإنسان في أسوأ حالاته وفي أفضل حالاته، مارًا بنا على ماري شللي وفرانكشتاين، فليسَ HAL الكمبيوتر المتطور في الفيلم إلا نسخةً محدثة من وحش الدكتور فرانكشتاين، الذي صنعه ثم عجز عن السيطرة عليه.
كل تلك الإشارات والمعاني يدرجُها ستانلي كوبريك بسلاسة في فيلمه، الذي ليس إعادة كتابة لأوديسة هوميروس فسحب، بل هو بطريقة أخرى، أكثر تطورًا، يجعل الإنسان فيها بطلًا لقصة خيالية، يؤلها ويعيشها، وإن اقتضى الأمر يغير حبكتها لتوازي تطوره التكنولوجي.
يقدم ستانلي كوبريك أوديسته اقتباسًا من كتابٍ بنفس الاسم للروائي آرثر سي كلارك، نُشر في العام 1968 ذاته الذي عرض فيه الفيلم. لكن ستانلي كيوبريك يأخذ فكرة الكتاب إلى أبعد مما أخذها آرثر، ليعبِر بها عن حالة الإنسانية اللاهثة وراء التكنولوجيا، حتى أصبحت تلكَ التكنولوجيا محددًا لوجودها، بل يمكن القول أن كوبريك يحاجج في الفيلم بأن التكنولوجيا باتت هي التي تصنع الإنسان لتمام اعتماده عليها واستحالة حياتهِ من دونها.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "البائع" بين أصغر فرهادي وآرثر ميلر
فيقدم فكرته تلك عبر لقطات كثيرة شهيرة تُظهر تنوع التكنلوجيا حول الإنسان وكيف تعيد تشكيل هويته، حتى في ملبسه ومطعمه ومشربه، حتى في تواصله مع الآخر الذي يشترك معه النوع البيولوجي.
نرى في "أوديسة الفضاء" كيف أن الإنسان يصبح هامشيًا مقابل الآلات التي يخترعها ويصنعها، ولعل الشخصية المعقدة التي كونها كوبريك للكمبيوتر المتطور HAL مقابل شخصات رواد الفضاء البسيطة، توضح المعنى أكثر: إن "هال" في الفيلم يمثل الإنسان العاقل قبل تغلب الآلة عليه: كائنًا من منطق وعاطفة، قادر على التحليل والتعبير وقادر على رصد مشاعره لإيصال أفكاره.
نرى في "أوديسة الفضاء" كيف أن الإنسان يصبح هامشيًا مقابل الآلات التي يخترعها ويصنعها
وتتضح تلك الفكرة أكثر عند اللقاء الثاني بين البشر والمونوليث، حيث يعتبر الإنسان أنه اكتشف ذلك الحجر المستطيل الكامل، بل ويعمد إلى أخذ صورة معه لتخليد اللحظة، وهذا –للمفارقة- انعكاس قَبلي لحياتنا اليوم، حيثُ لم نعد نعيش اللحظة بقدر ما نسارع إلى توثيقها، فنبقى في مطاردة دائمة مع الزمن، نعيش المستقبل في الحاضر ونعيش الماضي في المستقبل: هذا ليس جديدًا، بل وجهة نظر أصلية، ناقشها ستانلي كوبريك قبل نصف قرنٍ تقريبًا.
أفلام كثيرة حاولت تقديم تحية سينمائية لأوديسة الفضاء، آخرها فيلم Passengers الذي يقدم مواقع تصوير مشابهة، وقصة تكاد تذكر بما حصل لرائدَي الفضاء مع الكمبيوتر "هال"، لكن الفرق دائمًا يبقى بأن عبقرية كيوبريك كانت سابقة على زمنها وعلى الأزمانِ اللاحقة، وقدمت صورةً أصلية لما يمكن أن يكون عليه الصراع بين الإنسان والآلة، وبين الإنسان والإنسان، عندما يأخذه نجاحه وتطوره التكنولوجي خارج أرضه، إلى حدود الفضاء الذي يتحدى العقل والمنطق والعاطفة والمشاعر، ويظهر البشر على ما يشبه حقيقتهم البدائية: كائنات أنانية في صراع أبدي للبقاء.
اقرأ/ي أيضًا: