لم يكن خافيًا على أحد إبّان توقيع ما عرف باتفاقيات أبراهام في صيف عام 2020 وطرح الرئيس الأمريكي السابق لخطط "صفقة القرن" أننا أمام ميلاد رسمي لنموذج جديد من التطبيع "الأبراهامي" العربي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، كشف المكشوف، وأبان بجلاء عن ذهنية عربية متصالحة عقائديًا مع إسرائيل وسردياتها التأسيسية، وتنطلق في العلاقة معها من قناعة بحقّها الكامل في الاستيلاء على الأرض الفلسطينية والتخلّص من كل "مشاغب" فيها.
تدرك أنظمة التطبيع العربية أن أي ثورة ضدّ الاحتلال تستبطن ثورة ضد الاستبداد
كان ثمّة حينها بقيّة من رافعة معنويّة في المنطقة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي وممارساته الإرهابية على الأرض في فلسطين، تتمثّل لدى الجماهير العربية بمواقف خطابية شعبويّة لدولٍ إسلامية في المنطقة، بدت متقدّمة في إدانة الاحتلال، ومغرية للبعض في التعويل عليها، قبل أن يسحق قطار التحالف مع إسرائيل كل تلك الآمال وينبطح الجميع أمامه.
مقالات قد تهمّك
في ضرورة التحرر من نكبة الوهم والاستسلام للصهيونية
نحو تصور ديمقراطي في رفض التطبيع
لقد انفرط عقد هذا الشكل من التطبيع في المنطقة بالكامل أو يكاد، وأضحى الشارع الفلسطيني والعربي وكأنه متروك بلا أي سند رسمي، أمام موجة عاتية من التحالف الإستراتيجي الكامل مع الكيان الاستعماري، بل واتخاذ موقف واضحٍ أيضًا ضدّ ضحايا هذا الاستعمار أنفسهم. هكذا بتنا نرى عربًا لا يخجلون من زيارة أرض عربيّة تحت الاحتلال ويحلّون ضيوفًا لدى المحتلّ نفسه، في سياق حملات تضليل إعلامي ممنهجة، تكاد تكون شبيهة بعمليات غسيل العقول وإعادة التعليم التي تمارسها الصين على أقلية الإيغور المسلمة. أما الهدف فهو التطبيع مع هذا المستوى من التطبيع، وفرضه واقعًا جديدًا، والانتقال من الترويج لإسرائيل وضرورة التحالف معها، إلى أنسنة المحتلّين أنفسهم والدعوة لفتح الأبواب لهم والقبول بهم، مع الانكباب في الوقت ذاته على النيل من الإنسان الفلسطيني والتشكيك في حقّه وعدالة قضيّته. كل ذلك جرى ويجري طبعًا في ظل سكوت/إسكات لعموم المواطنين في عواصم التطبيع الكبرى، الذين يعيشون عمليًا في معسكر اعتقال كبير، ثمن الكلام فيه سنوات من التغييب القسري والسجن.
لقد تكثّفت خلال السنوات الماضية محاولات تهميشٍ القضيّة الفلسطينية والتنصّل من المسؤولية تجاهها، والترويج لدعوات الذباب الإلكتروني بأن "فلسطين ليست قضيتنا"، وهي العبارة هي الأشدّ اختزالًا لحالة الفصام التي يراد التطبيع معها هي الأخرى أيضًا. إذ لا يمكن للعربي حكمًا إلا أن تكون فلسطين قضيّته، شاء ذلك أو أبى، فهي قضية العرب بوصفهم عربًا على حد تعبير الدكتور عزمي بشارة في إحدى محاضراته. وليس يعني ذلك أن على فلسطين أن تكون مقدّمة في حساباته الوطنيّة القوميّة، وإنّما يعني أن كلّ ما هو عربيّ يؤدّي إلى فلسطين وينعكس عليها. من هنا أيضًا نفهم كيف أن محور التطبيع المتصهين المتحمّس لإسرائيل هو نفسه محور الثورة المضادة التي سعت لإفشال كل محاولات للتحوّل الديمقراطي في المنطقة خلال العقد الماضي.
لقد طالت محاولة تهميش فلسطين والتخفف منها، وإثارة كل النعرات الخطابية لزرع بذور الشكّ فيها بين عامّة الناس وافتراء الحجج لتقويض أسس شرعيتها، سواءً عبر الاستشهاد بالانقسام الفلسطيني وضعف الجبهة الداخلية الفلسطينية، أو التذرّع بالأولويّات المحليّة وادعاء أن فلسطين للفلسطينيين وحسب، أو الاكتفاء باستعادة تضحيات تاريخية، طالت قدسيّة الأقصى الشريف نفسه. فقد أقحم المسجد الأقصى في سجالات تعريض ومناكفة ومحاولات لنزع القدسيّة المعنويّة عنه أو جعلها موضع مساءلة وشكّ. يحصل ذلك في تماهٍ تامٍ مع الرواية الصهيونية فيما يخص أرض فلسطين التاريخية ومقدساتها، وفي خطاب وآليات بروباغاندا تخرج بأصحابها من دائرة التطبيع والتسويات إلى دائرة أخرى من التحالف الوثيق والمبدئي مع إسرائيل ومشروعها الصهيوني لأسرلة كامل فلسطين، بكل ما يعنيه ذلك من نكران رخيص للذات العربية والانسلاخ منها.
لكن ورغم هذا الاتحاد الصهيوني العربي مؤخرًا حول هذه الرؤية والأيديولوجيا، التي تحيل القدس إلى مخترَعٍ سياسي صهيوني مقدّس غير قابل للتفاوض عليه من طرف إسرائيل، وغير مطلوب التفاوض بشأنه أصلًا من طرف عرّابي التطبيع الأبراهامي، يقلب الفلسطينيون اليوم المعادلة كلّها، ليس عبر التأكيد على أن التنازل عن القدس لن يمرّ وأن التفريط بالأقصى لن يحصل وحسب، بل وكذلك عبر العودة في كل موسم ممكن من مواسم المقاومة إلى الدرس الأول: أن الأرض الفلسطينيّة عند الفلسطيني كلّها قدس، وأنّ المقاومة، بما تدلّ عليه من معنى الوجود واستمرار الحياة الفلسطينية على الأرض، كفيل بتقويض كل ادعاءات التفوّق الإسرائيلي، ورفع الغطاء عن التطبيع، وإحياء قضيّة فلسطين في ضمير العرب وأجيالهم الشابة.
هذه الاستمرارية للوجود الفلسطيني المصرّ على الحياة، وانعكاسها المباشر على الشارع العربي المقهور وإنعاشها له رغم كل محاولات قمعه وإبادته، هي أكثر ما يهدّد تلك الأنظمة التي لا ترى سلامتها وشرعيتها إلا في التطبيع مع دولة احتلال غير شرعي بل والتحالف المطلق معها. وأمام استشعار هذا التهديد، تنطلق حملات الذباب الإلكتروني على أشدّها مع كل واقعة مقاومة أو اقتحام للمقدسات في فلسطين، وتتأهّب بعدّة التضليل والفبركة، حرصًا على عدم تراكم زخم الغضب والتعاطف لدى الناس، وذلك عبر التشكيك بدواعي هذا الغضب نفسه، وتعميم هذا الفصام بين العربي وقضية فلسطين. ولا يحدث ذلك إلا لإدراك هذه الأنظمة العميق بالتقاطع الكبير بين واقع الاحتلال وواقع الاستبداد، من قهر وإحباط واستلاب للكرامة الإنسانية، وأن الثورة ضدّ الاحتلال لا بدّ على الأرجح أن تثير معها ثورة ضدّ الاستبداد.
قضية فلسطين هي قضيّة تحرّر شامل، تمسّ بالضرورة كلّ العرب ومعاشهم اليومي ومستقبلهم القريب والبعيد
هذا الموقف الذي بات مفضوحًا، يذكّر إذن بأن قضية فلسطين هي قضيّة تحرّر شامل، وأنها تمسّ بالضرورة كلّ العرب ومعاشهم اليومي ومستقبلهم القريب والبعيد، وأن الاحتلال والاستبداد سيّان، وأن كل مسعىً لتحرير فلسطين وعزل الاحتلال ونزع شرعيّته سيظلّ مكوّنًا لا يمكن أن يسقط من أية وصفة لتحرّر عربي من ربقة القمع والتبعية ووضع القدم من جديد على طريق التحوّل الطويل نحو العيش الحرّ الكريم.