هذا النص للكاتب النمساوي فلوريان غانتنر. اعتمدت هذه الترجمة على النص المنشور في المجموعة القصصية المعنونة بـ"مغامرات عمّان"، والصادرة باللغة الألمانية عام 2011 عن دار تاوريسكا للنشر.
فلوريان غانتنر كاتب نمساوي، مواليد 1980، يعيش في فيينا، حصل على جائزة ثيودور كورنر 2014، وجائزة فلورينا الأدبية 2018.
دخلتُ مكتبَ البروفيسور مهدي الذي عَيَّنتْهُ جامعتي ليُساعدني خلال فترة ابتِعَاثي في الأردن، والذي تنصّل من الرد على رسائلي الإلكترونية، حيث كنتُ قد راسلته فور وصولي إلى عَمَّان ومرّت بعدها أربع أيام على تواجدي في المدينة دون حصولي على استجابة منه.
لم يستطع وقتها مهدي تجاهلي وبدا واضحًا فاعلية التواصل الشخصي معه، حيث صاحَ على المستخدم ليقدمَ لي بسرعة فنجانًا من القهوة ثم خاطبني: "ها أنت قد وصلتَ بالفعل؟"، فهززتُ برأسي وعضضتُ على لِساني لكيلا أقول له بأنني قد وصلتُ منذ أربع أيام وبأنني أرسلتُ له ثلاث رسائل إلكترونية مخبرًا إيّاه بذلك.
جلسنا قبالة بعضنا البعض حيث راح مهدي يدخن سيجارته باستمتاع، وارتشفَ كلانا القهوة حتى كسرَ الصمتَ بقوله: "هل لديك أي أسئلة؟".
لم أمتلك أي فكرة عما يتوجب عليّ فعله في الأشهر الخمس القادمة سوى تدريسي لللغة الألمانية فحسب، مما حرّك سلسلة من أدوات الاستفهام في رأسي: من؟ أين؟ كم؟ ومتى؟
راقب مهدي ترددي ثم نطق بما لم يفِدْني حقيقة: "لديكَ الحرية الكاملة في التدريس، تستطيع أن تفعل ما تشاء".
كانتْ القضية المستعجلة الأولى هي إيجاد سكن دائم، فكنتُ أسكن منذ أربع أيام في فندق "القصر" ولم أكن أريد ركوب سيارة أجرة إلى الجامعة لمدة نصف ساعة كل يوم، حتى وإن كانتْ أسعار المبيت في ذلك الفندق رخيصة، كما أنّ استكشافاتي لمنطقة الحرم الجامعي بيّنتْ لي تواجد شقق مفروشة كثيرة وبأسعار معقولة.
كان واضحًا بأنني لن ألقَ الكثير من الدعم في بحثي عن شقة مفروشة، خصوصًا بعد وصولي إلى المطار وعدم تواجد أحدهم في استقبالي كما تم الاتفاق عليه سلفًا، كما أنّ جواب مهدي على سؤالي حوْلَ كيفية إيجاد الشقق تركني في حيرة كبيرة حيث قال لي: "الموضوع كالتالي هنا، عليك أن تذهب إلى أحد المباني وتحاول البحث عمن يدلك عن مكان تواجد المصري".
تساءلتُ عن معنى كلمة "المصري" وإذا ما كان مهدي قد قصد كلمة "المصعد" بدلًا من ذلك، ولكنه شرح لي الأمر أخيرًا بأنّ الذين يشرفون على تأمين شقق الآجار في عمّان مصريو الجنسية، وبأنّ أهلَ الأردن يترفعون عن هذه المهنة لذا يعمل المغتربون في مجال العمل هذا.
أشار مهدي إلى الأفق الذي توجبَ عليَّ توخِّيه، فانطلقتُ في طريقي وغادرتُ الحرم الجامعي بحثا عن شقة للآجار.
عبرتُ الشارع متعدد المسالك المقابل للجهة الأمامية للحرم، والذي حمل توصيفين نبيلين عاد أولهما للملك الحالي وكانت كلمة "بوليفار" الوَسْمَ الثاني، ثم توجب عليَّ بعدها أن أصعد أحد الجبال. لم أقصد المباني الأولى التي واجهتني لعدم رغبتي في قضاء الأشهر القادمة قريبًا من ذلك البوليفار المَلَكِي والسكن بالقرب من حركة السير الكثيفة.
أخذتْ المباني في عمّان شكلًا مربعًا متشابهًا وتزينتْ كلها تبعًا لقرار ملكي بلون أبيض داكن. تقطعتْ أنفاسي بعد بضعة مئات الأمتار من صعودي للجبل فصادفتُ عندها رجلًا جالسًا أمام مدخل أحد المباني، اغتنمتُ ابتسام الرجل في وجهي، لا لأسأله إذا كان مصريًا إنما ضربتُ الحديد وهو ساخن وسألته إذا كانت هناك شقق معروضة للإيجار.
ناظرني الرجل بودٍّ مؤكدًا بإنجليزية مكسّرة بأنه من مصر، فجاريته بلطف ثم عرّفَني بنفسه على أنه "أبو رعد" وأشار إليّ لألحق به، فأخذنا المصعد إلى الطابق الأول.
يحبُ الأردنيون المصاعد وحصدتُ في الأشهر اللاحقة نظرات التفاجئ كلما حاولتُ صعود أحد السلالم إلى الطابق الأول، فكانوا يشهرون بجنوني حيث يُعَدُّ صعود السلالم مجهودًا غير مبرر ومضيعة للطاقة، ولا يُنظَرُ إلى السلالم هنا على أنها وسيلة لمواجهة السمنة الزائدة أو تجنب تورم دوالي الأوردة.
فُتِحَ باب المصعد على ممر مظلم باذخ في زينته، فذهبنا إلى نهايتها حتى وصلنا إلى باب على الجانب الأيسر، رُسِمتْ عليه رموز غريبة "٢٠٥" إلا أنها طبيعية جدا للعارفين بالأرقام العربية الهندية المستخدمة في الأردن.
دخلنا الشقة التي كانت عبارة عن غرفة بمساحة اثني عشر مترًا مربعًا تقريبًا تواجد فيها سريران صغيران، خزانة واحدة، طاولتان وثلّاجَة تموضع فوقها تلفاز صغير، أطلّتْ نافذة صغيرة خلف إحدى الطاولات على الشارع وشاهدتُ من خلالها مصطبة بيت الجيران وقمة إحدى المآذن، وموزاييك من المربعات السكنية.
بدتْ السجادة متهالكة وبالية ولكنها لا تسببُ مخاوفَ صحية كما تلك الموجودة في فندق القصر. لاحظتُ بخطوتين للخلف باتجاه مدخل الشقة مساحةً محدودة احْتَوَتْ المطبخ، تواجد فيه فرن غاز ومغسلة صحون، أما الحمّام فتموضع بشكل مجاور للمطبخ فضمّ كرسي التواليت ومغسلة ثانية ووقفت كابينة الدوش خلف الباب إلى جانب المرآة، فتوفرتْ أساسيات الشقة بنظافة ودون الكثير من البهرجة الزائدة، كأي جُحْرٍ صغير فحسب.
جلسنا في مكتب أبو رعد الصغير ورافق جلستنا بضعة رجال آخرين، الذين كانوا يراقبونني بود وبفضول أيضًا، شرح لي أبو رعد بأن هؤلاء الرجال يريدون السكن هنا. قدّمَ لي الجالس أمامي كأس الشاي خاصته فشربنا وأومأنا برؤوسنا لبعضنا البعض.
عرضَ عليّ أبو رعد بطاقة رُسمَ عليها صورة مبنى، كُتِبَ بجانب الصورة كلمات بحروف لم أعرفها، فأنظر إليه بعيون متسائلة وأهزّ أكتافي دلالة عن عدم فهمي فيتجاوب أبو رعد موضحًا بأنّ فندق الشقق المفروشة الذي نجلس فيه يُدعى "فندق النجاح" شارحًا معنى الكلمة العربية، فيضحكني أسلوبه البدائي في التوضيح ولا أستطيع إلا تقدير محاولته اللطيفة فأسمِعُه ساخرًا: "آآه".
لم أستطع تجاهل الأثر الذي تركه اسم الفندق في خاطري، وقلتُ في نفسي "يا لدهاء عرضه المتخفية خلف تعابيره" ولكني قررتُ الحصول على الشقة مهما كان الثمن.
نقرَ كل منّا رقمًا في الآلة الحاسبة حتى اتفقنا في النهاية على سعر مقبول لكلينا، وكنتُ قد اقترحتُ أن أدفع له سلفًا أجرة الشهور الخمس لكي أتمكن من إقناعه بالسعر المتدني الذي كان في ذهني، فبدا اقتراحي لأبي رعد عرضًا جيدًا وكنتُ بدوري راضيًا، خصوصًا بعد حصولي على تأكيد من الدكتور مهدي بسوية وعدل السعر المتفق عليه.
ضربتُ كأس الشاي بكؤوس الحاضرين احتفالًا بمجاورتهم وانصرفتُ سعيدًا في طريقي إلى الفندق الذي أقيم فيه لأجمع حاجياتي، وفي طريقي خطر ببالي: "بما أنهم يسمّونَ الفندق الذي أنزل فيه بالقصر، فلن يكون مجحفًا أبدًا أن يُطلقَ لقب القلعة على مكان إقامتي الجديد بقمة الجبل المرتفع".
تلبدتْ الغيوم الداكنة فوق مزاجي المنشرح عندما تذكرتُ أنّ في الشقة سريرين وطاولتين، فتساءلتُ إذا ما كنتُ قد أخفقتُ في شرح مقصدي وتوضيح رغبتي باستئجار المكان لوحدي؟ هل يعقل أن يكون أبو رعد قد أجرّني سريرًا وطاولة فحسب؟!
قفزَ قلبي خوفًا خلال أسابيعي الأولى في الشقة إثر أي طرقة على الباب، فتوقعتُ رَجُلًا يقف أمامي مقدمًا نفسه على أنه شريكُ سكني، مع أنني لا اعترض على السكن المشترك إنما أقلقتني فكرة مشاركة الأمتار القليلة مع أحدهم على طول الأشهر القادمة، ناهيك عن ارتفاع الأجرة التي دفعتها مقابل نصف الشقة المفروشة.
اقرأ/ي أيضًا: