تدور القصّة الرئيسيّة للفيلم حول التقاء كل من بول (مارلون براندو) وجين (ماريا شنايدر) في شقّة بإحدى ضواحي باريس. بول تفجّرت أزمته الوجوديّة بانتحار زوجته المُفاجئ فيحاول لذلك الخروج من العالم وعدم الانتماء إليه، ويجد بالفعل حلًا وهو أن يعلن انتماءه للشقّة التي عاش فيها مع زوجته فقط دون الزمان والمكان، إلا أنه هناك يلتقي بجين المُقبلة على الزواج بمُخرج شاب. الصُدفة هُنا تجمع بين شخصيتين في مُفترق طُرق، براندو بعد انفصاله وجين وهي في طريقها للارتباط، وهذه الصُدفة تمثل التقاء ثقافتين أو جيلين مُختلفين.
تميز أسلوب برتولوتشي بضربه للقواعد الكلاسيكية السينمائية عن طريق عدم التزامه بالسلاسة في قطعات المونتاج
منذ بداية الفيلم ونحن نعرف أنّنا أمام شخصيّات غريبة، منذ ظهور المرأة السوداء التي تضحك بشكل غريب ومنذ بداية العلاقة الجنسيّة بين بول وجين، الجنس هُنا في هذا الفيلم يحتكم لعلاقة (ساديّة/استسلام أو مازوخية) من الطرفين، هو ليس سوى تعبير انفعالي لأزمة بول الوجوديّة وليست مُجرد أزمة عاطفيّة، جين تبدو مُتألّمة جدًا وبول يشعر بضيق شديد.
بول يقول لجين: إننا لسنا موجودين في هذا العالم، ويقول لها في سطر آخر إنه لا يملك اسمًا وهي لا تملك اسمًا، الشقة هي المكان الذي يُعلن فيه بول عدم انتمائه للزمان أو للمكان، وكأن ما هو خارج الشقّة لا يعنيه أبدًا، وفي موقف آخر يرفض أن تقام أي شعيرة دينيّة على وفاة زوجته صارخًا في وجه أمّها: لا أحد يؤمن بالله هُنا!
اقرأ/ي أيضًا: اشتباك.. من مقعد المشاهد
برناردينو برتلوتشي يخلق في فيلمه هُنا شخصيّات بشريّة لا تنتمي لهذا العالم، أو بدقّة أكثر هم يعيشون برؤية فرديّة شديدة الضيق، في مشهد الاغتصاب الشهير، يُمارس بول الجنس مع جين بشكل سادي جدًا، وتقود جين بالبُكاء، ورأى النقّاد أن بُكاء جين بسبب ألمها وفي نفس الوقت رفضها لأن تتخلّى عن بول مهما كانت تصرّفاته، البقاء مع بول هُنا رمزًا ومعادلًا واضحًا ليأسها الاجتماعي، إنها تتمسّك ببول بديلًا للهرب، جين تظهر عارية في كثير من الأحداث بالفيلم، تتعرّى هي لأنها تبحث عن الحلول مُعتقدة بذلك أنها إيجابيّة وفي نفس الوقت هو استكشاف للمُستقبل بالنسبة له، بينما بول وصل إلى قمّة اليأس، وهو بممارسته الجنس يريد أن يتحرر من الماضي ويوقف التواصل مع ما لا يريد أن يعود إليه، الماضي بكل ما فيه.
هذا الفيلم دراسة سيكولوجيّة عميقة في شخصية براندو، عن الماضي بكل آلامه والرغبة في الانعتاق منه، عن الجنس حينما يكون وسيلة للتواصل أو الهرب من العالم، وبرتلوتشي هُنا يتضح سمات أسلوبه، الفخامة البصريّة، الإغواء، الجنس، هو أكثر اهتمامًا بالتعبير الذاتي، واستخدام الانتقالات السريعَة ومحاولته لتحطيم الزمان والمكان، بل وحتّى تأثره بجودار عن طريق استخدامه للقطات غير متسقة للإيحاء بمعنى ما، أو ضربه لقواعد الكلاسيكية السينمائية عن طريق عدم التزامه بالسلاسة في قطعات المونتاج.
في الفيلم نفسه يُحاكي برتلوتشي أسلوب بيكون، فبعد مُمارسة الجنس مع جيني، هناك لقطات صامتة لبول وهو يرقد على الأرض وتتقاطع مع لقطات لمحطة مترو في باريس، تدلف الكاميرا من خلال ممر إلى أن تصل للباب، فنرى بول راقدًا على الأرض وذراعه الأيمن مُمدّد. أما الثانية فهي أكثر اقترابًا حيث نرى بول راقدًا على ظهره متقاطع الساقين، وبقايا الزبد ملقاه على يساره، وفي اللقطة النهائية نرى بول راقدًا على جانبه وهذا الأسلوب مشابه جدًا في تكويناته لأسلوب بيكون، أو حين يذهب إلى مسرح انتحار زوجته، تقوم إحدى الخادمات بتنظيف الحوض المليء بالدماء، ينظر لها بول في لقطة معينة من خلف الزجاج، بحيث تبدو مُشوّهة، هذه اللقطة متأثرة ببيكون المعروف بأشكاله المشوهة المُستحضرة لليأس الوجودي، كلا الفنانين هُنا رأيا في الجسد البشري مكمنًا للعفن.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "هيبتا".. حكاية الأدب التجاري والسينما
وتبدو قُدرة برتلوتشي فتّاكة جدًا حين يستخدم الكاميرا كعين تتلصص على شخصيّاته وتكشف ما هو مستور، فيورط المشاهدين في عزلتهم ويدخلهم في توهان الشخصيّات بين الماضي والحاضر، وهو في ذلك يستعين بكاميرا العظيم فيتوريو ستورارو الذي طلب منه برتلوتشي أن تكون ألوان فيلمه شبيهة بلوحات فرانسيس بيكون.
قمّة أداءات براندو من وجهة نظري هي هذا الفيلم، وقمّة أدائه في هذا الفيلم هو مشهد نعيه لزوجته وهي ميتة، هذا مشهد عظيم يؤكّد على أن براندو هو أعظم من وقف أمام الكاميرا، هذا المشهد هو مسرحيّة شكسبيريّة جديدة كان بطلها براندو وحده. أما عن أداء ماريا شنايدر هو لا يُقدّم الكثير، وطغى عليه أداء براندو في كل المشاهد التي جمعت بينهما.
هذا الفيلم دراسة سيكولوجيّة عميقة في شخصيتيه، عن الماضي بكل آلامه والرغبة في الانعتاق منه، عن الجنس حينما يكون وسيلة للتواصل أو الهرب من العالم، أتذكّر هذا الفيلم كثيرًا حتى عندما يمُر الوقت ولا أشاهده، أتذكّر إيقاعه الموزون وشخصيّاته المحكمة ومشاهده العظيمة، أتذكّر أداء براندو الذي لا يُنسي وتصوير ستورارو وتكويناته البصريّة، في مُشاهدتي الثالثة لهذا الفيلم، هذا واحد من الأفلام التي يحق لها أن نذكرها إذا ذُكرت حقبة السبعينيات العظيمة، وواحد من أهم وأعظم أفلام السينما.
اقرأ/ي أيضًا: