مترجم بتصرف عن نص كريس والش: مدير برنامج فنّ الكتابة في العلوم والفنون في جامعة بوسطن، وصاحب كتاب "الجبن: تاريخ مختصر" الصادر عن مطبعة جامعة برينستن عام 2014.
المجد للأمّة الباسلة،
هلمّوا فلنتحدّ سويّا،
نحن للوطن فداء.
عليكم بالسّلاح أيا أهاليّ!
نحارب والروح على الأكفّ
من أجل وحدتنا.
فلنتكاتف بكلّ شجاعة،
انهضوا! انهضو!ا انهضوا!
يا ملايين الشعب بقلبٍ واحد،
مدافع العدوّ لا نهابها،
تقدّموا!
تقدّموا!
تقدّموا!
لن نحتاج سوى دقيقتين اثنتين لنؤلّف بين مجموعة من الأناشيد الوطنيّة، كما فعلت في المثال السابق الذي يجمع مقاطع من النشيد الوطنيّ من فنزويلا وتركيا وإيطاليا وميانمار وأستراليا والصين وفرنسا، ونرى مقدار الاحتفاء بالبسالة العسكريّة. وسيستغرق الأمر منّي بضع دقائق أخرى لأقتبس مئةً مثلها من مئة نشيد وطني من بلدان أخرى. ألا يقول الأفغان في بلادهم "كلّ أبنائك شجعان"، وفي زيمبابوي ينشدون "بتضحيات أبطالنا نسمو ونفاخر".
ربما لم تتملك الرغبة أولئك الذين كُتبت حولهم الأناشيد الحماسية، في أن يكونوا في مصافّ عظماء أهل الشجاعة والبأس!
ولكنّ الأبطال الأشاوس الذين كُتبت هذه الأناشيد زهوًّا وافتخارًا بهم لم تتملّكهم بالضرورة تلك الرغبة في أن يكونوا في مصافّ العظماء من أهل الشجاعة والبأس، قلّة وحسب من امتلكوا هذا الشعور، ولكنّ الغالبيّة كانوا "يحاربون دفاعًا عن الجمهوريّة" (كمبوديا) خيفةَ أن يوصفوا بالجبن. لقد كتب يوجين سليدج متحدّثًا عن نفسه وأصدقاءَ له في قوّات المارينز الأمريكية في الحرب العالميّة الثانية يقول: "أقسى تلك الهواجس التي سيطرت علينا هي أنّ خوفنا من أداء مهمّاتنا أثناء القتال قد يظهر على وجوهنا حين تصفرّ". ولكنّهم تمالكوا أنفسهم وتجنّبوا هذا العار. ونجد تيم أوبرين في مجموعته القصصيّة "ما حملوا من أشياء" التي تحدّث فيها عن تجربته القتالية في حرب فيتنام يقول إنّ أثقل عبءٍ حمله الجنود هو "ذلك السرّ المشترك عن جبنهم". وكان التخوّف من انكشاف ذلك السرّ هو "الذي حملهم إلى الحرب في المقام الأول، لا يحدوهم شيء من تلك الأفكار العظيمة، أو أحلام العظمة والشرف الرفيع، كلّ ما أرادوه هو تجنّب وصمة العار... لم يكن للأمر علاقة بالشجاعة ولا بالبأس في الحرب، كل ما في الأمر هو الرعبُ من أن يُقال عنهم جبناء".
اقرأ/ي أيضًا: طيران فوق عش الائتلاف
لا ذكرَ للجبناء في الأناشيد الوطنيّة، ولا عجب، وقلّما تصل قصص الجبناء إلى سجلات التاريخ. وفي هذا يشير ماكس هاستينجز، ذلك المؤرخ العسكريّ البارز ويقول: "لم أجدْ في أيّ مذكّرات حربيّة أمريكيّة أو بريطانيّة أيّ ذكرٍ صريح لحادثةٍ تروي فرار الجنود هلعًا في مواجهة ما، وهو أمر يحصل بطبيعة الحال ولو أحيانًا". وهنالك مثل إسباني يختصر الأمر ليخبرنا "عن الجبناء.. ليس ثمّة ما يُكتب".
ولكنّ العجيب هو أنّ فكرة الجبن قد أهملها حتّى الباحثون الأكاديميون ولا يزالون. صحيحٌ أنّ الحرب تقوم نزاعًا على أرضٍ أو مصادر أو سلطة، ولكنّ هنالك اعتبارات أخرى للحرب غير هذه. يحدّثنا المؤرخ روبرت كاغان في كتابه "عن أصول الحرب وحفظ السلام" عن أمورٍ من قبيل الشرف أو العار بالأحرى، لها عميق الأثر في هذا السياق. إنّ الأمم لا تحارب كي تظهر شجاعتها، مثلها في ذلك مثل الجنود أنفسهم، ولعل الدافع الأكبر هو دفع عار الجبن عنها. لقد كان أوبرين مرغمًا على الذهاب إلى فيتنام لأنّه خشي أن تنطبق عليه تلك الكلمات التي قالها الرئيس الأمريكي ليندن جونسون: "إن تركت الحرب وسمحت للشيوعيين بالاستيلاء على فيتنام الجنوبيّة فسأكون جبانًا في عيون الآخرين وسيظنّ الآخرون أنّ الأمّة الأمريكيّة ترضى بالدنيّة".
قوّة الجبناء
على الرّغم من قدرة الجبن على التواري والتستّر، إلا أنّه لا يصعب تتبّع ظهور هذه الفكرة بشكل قويّ في التاريخ الأمريكيّ. ولنبدأ من يوليو/تمّوز 1775 حين خضع اثنان من الجنود لمحاكمة عسكريّة بعد معركة بانكر هيل. وعند النطق بالأحكام على الجنديّين تحدّث الجنرال جورج واشنطن عن الجبن ووصفه يقول: "إنّها أشنع جريمة من بين الجرائم إن صدرت عن جنديّ، وأشدّها ضررًا على الجيش، وهي آخر ما يمكن العفو عنه، ذلك لأنّ الجبن عادةً إن تجلّى في جنديّ واحد فإنّه ينذر بهلاك الجيش بأكمله...".
لا ذكرَ للجبناء في الأناشيد الوطنيّة، ولا عجب أنه قلّما تصل قصص الجبناء إلى سجلات التاريخ
وبعد عامٍ أو أكثر من كلمات واشنطن هذه، وفي مرحلةٍ من الضعف والهزيمة كانت تمرّ بها قوّات حرب الاستقلال الأمريكية، نشر طوماس باين مجموعة من المقالات بعنوان "المصيبة" مفتتحًا بعبارته المشهورة السائرة: "هذه أوقات تُبلى فيها أرواح الرجال"، ولكنّه يبثّ في السطر الثاني الأقلّ شهرة شيئًا من احتقارٍ للجبن ويسيرعلى ذلك في بقيّة المقالة، فيقول: "إنّ الجنودَ الذين اعتادوا الربيع والوطنيين الذين لا يعرفون من الوطنيّة إلا شمسها الوديعة سينسلّون من خدمة وطنهم في وقت المصائب."
ولكنّ قلق الثوّار الأمريكيين من ظهور الجبن فيهم قد حدّ منه اقتناعُهم بأنّ الإنجليزَ أكثر جبنًا، مع أنّ الإنجليز كذلك كانوا يظنّون أنّ الثوّار جبناء في عمومهم، وهذا ما جعلهم يرون أنّ بالإمكان هزيمتهم بأقلّ عددٍ من الجنود والعتاد.
اقرأ/ي أيضًا: السحر وامتلاك العالم
وقد يصعبُ عليّ أن أبالغ في تقدير مدى انتشارِ خطاب الجبن وترسّخه في المرحلة التي سبقت الحرب الأهلية وحتّى في خضمّها. فمع أنّ المواجهة لمّا احتدمت بين قوات الاتّحاديين وقوات الكونفدراليين في الحرب الأهليّة جعلت كلّ طرف يعيدُ النّظر بمقدار الجبن عن خصمه، إلّا أنّ الجنود لم يتخلّصوا من عقدة الجبن، وهذا ما يلاحظه جيمس مكفرسُن في دراسته عن دوافع الحرب الأهليّة الأمريكيّة، حيث قال: "لقد كانوا مشغولين دومًا بدفع تهمة الجبن عن أنفسهم وتجنّب أن يلحق عارٌ كهذا بهم." وكانت المحاكم العسكريّة التي وقف فيها الجبناء متّهمين أمرًا شائعًا ومعروفًا، وكانت تنتهي بمشاهد من الذلّة وتودي بالمتّهم إلى السجن والأشغال الشاقّة، بل وكان جزاء البعض منهم التعذيب أو حتّى الإعدام.
بعد عدّة عقود جاء دور ألمانيا في الحرب العالميّة الأولى عام 1914 وكلّنا نعلم الأسباب المعقّدة التي أدّت إلى إعلان الحرب حينها، ولكن علينا أن نذكرَ أيضًا أنّ أحد تلك الأسباب هو قلق قيصر ألمانيا من أن يظهر بمظهر الجبان، ولعلّنا نجدُ ذلك جليًّا فيما جاء على لسانه عقبَ اغتيال صديقه فرانز فرديناند حين قال مردّدًا: "لن أجبنَ هذه المرّة.. لن أجبن هذه المرّة." وحين اندلعت الحرب الكبرى في أوروبا وبقي الأمريكيّون في البداية على الحياد ولم يتدخّلوا فيها، خرجَ تيدي روزفلت واتّهم الرئيس الأمريكي حينها، وودرو ويلسن، بأنّه زعيم "ثلّة من الجبناء." وجاء الردّ من ويسلن مدندنًا حول الفكرة نفسها، فقال: "لن أورّط نفسي في حربٍ كلّما قام أحد أعضاء الكونغرس أو مجلس الشيوخ غاضبًا ووصفني بالجبان." ولكنّه أذعنَ في نهاية المطاف وتوجّه إلى مجلس الشيوخ طالبًا منهم إعلان الحرب، وصار التحذير من عار الجبن وخزيه من أهمّ الوسائل لتجنيد الناس وتعبئة الدولة.
خشيَ الأمريكيّون العدوّ في الحرب العالمية الثانية، ولكنّهم ما فتئوا ينعتونهم بالجبناء أيضًا. حدثَ عشيّةَ غزو صقليّة عام 1943 أنْ قام الجنرال جورج باتون مخاطبًا الجنود الأمريكيين ذوي الأصول الألمانيّة والإيطالية قائلًا لهم إنّ أجدادهم قد تحلّوا بالشجاعة حين تركوا أوروبا بحثًا عن الحريّة- وتلك هي صورة الشجاعة التي تتناقض مع جبن الأعداء أمامهم وخنوعهم أمام الاستبداد. ووضّح يقول: "... أمّا أجداد هؤلاء الذين سنقضي عليهم فلم يكن لديهم من مؤونة الشجاعة ما يكفي للتضحية وفضّلوا أن يعيشوا حياة العبيد". وفي هذه الحملة وقعت تلك الحادثة الشهيرة حين صفع باتون جنديًا من جنوده أنهكته المعارك ونعته بالجبان، وتكرّرت هذه الحادثة مرّتين. أمّا في ألمانيا وروسيا في تلك الفترة فقد كان الإعدام مصير عشرات الآلاف من الجنود الذين فرّوا من الخدمة أو ارتكبوا أفعالًا توصف بالجبن كإبداء الاستعداد للاستسلام للعدوّ.
في الحرب العالمية الثانية، كان الإعدام مصير الجنود الذين فرّوا أو ارتكبوا أفعالًا توصف بالجبن كإبداء الاستعداد للاستسلام
وفي العام 1975 أعلنت الولايات المتّحدة انسحابها من فيتنام، كما فعلت في بيروت عام 1983 والصومال عام 1993، وهي أمثلة اعتمد عليها أسامة بن لادن في حديث له عام 1996 للتدليل على جبن الأمريكيين، مؤكّدًا كذلك أنّ الجبن عند المسلمين "هو ما يقف حائلًا دون نهوضِهم في وجه التواجد العسكريّ الأمريكي في بلاد الحرمين"، ولأنّ الأمريكيين جبناء أصلًا فإنّ هذا يعطي الأمل بالانتصار عليهم في رأيه. واستمرّ الأمر حتى هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، فنهض جورج بوش الابن وهيلاري كلينتون والعديد من الأمريكيين ليصفوا تلك الهجمات بأنها أعمال جبانة، فبدأ المنطق ذاته مرّة أخرى: ما فعله الإرهابيون كان مجرّد عمل أرعن وجبان، وجبنُ هؤلاء الإرهابيين دليل على أنّ بالإمكان القضاء عليهم، كما أنّه سيكون من الجبن أن لا نهاجمهم ونردّ لهم الصاع صاعين.
اقرأ/ي أيضًا: سفيتلانا أليكسيفيتش.. الحقيقة بوصفها أمّ الأدب
وتكرّرت ثيمة الاتّهام بالجبن أو الخشية منه كثيرًا منذ ذلك الحين. ففي مطلع العام 2002 أثناء احتلال أفغانستان ألقى الجيش الأمريكي منشورات عليها صورةٌ بن لادن يظهر فيها حليق الذقن كاشف الرأس يرتدي بدلةً أنيقة كرجال الأعمال، مكتوبٌ عليها بالبشتونية: "المجرم الجبان أسامة بن لادن قد تخلّى عنكم"، وهنالك نسخة أخرى بالإنجليزية أنتجتها وزارة الدفاع لتستهلك أمريكيًّا.
أمّا داعش فلم تنسَ كذلك أن توظّف هذه الفكرة في حملتها وليس أدلّ على ذلك من مقال ظهر في مجلّة إنجليزية تنسب إليها جاء في مطلعها: "إنّ أمريكا في أشدّ لحظات خورها وجبنها قد أكّدت لشعبها أنّها لن تقحم نفسها في الحرب مباشرة ضد الدولة الإسلامية ولكنّها ستعتمد على عملائها من المرتدّين في المنطقة." ثم تصف المقالة أولئك "العملاء" أنفسهم بأنّهم "مقاتلون مخنّثون من حزب العمّال الكردستاني والبشمركة".
التطلّع إلى الشجاعة
إنّ الاعتقاد بجبن الآخر والخوف في الآن ذاته من الاتّهام بذلك ممّن هم في طرفه يؤدّيان إلى خلق حالة من الثّقة قد تصل إلى الطيش أحيانًا. فربّ حربٍ اندلعت لدفع هذه التهمة، وربّ حرب استمرّت لإثبات عكسها، علمًا أنّ هذا النسق موجود وشائع بل ولعلّه يكون من السّمات الأساسية التي يجري اللعب عليها في كلّ حرب. وليس عار الجبن بأمرٍ يخشاه رجالات الحرب والجنود وحسب. فها هو ذا غاندي يعلن أنّه يفضّل العنف على الجبن إن وقع الاختيار بينهما، وتابع يقول: "إنني أفضّل أن أرى الهند تحاربُ دفاعًا عن شرفها على أن تصبح أو تبقى عاجزةً جبانة أمام ما حلّ بها عار".
ما الذي يا ترى يمنح هذه الفكرة قوّتها ومن أين تستقي سطلتها؟ صحيحٌ أنّ التقاليد الشعبية والعقائد العسكرية حول العالم تعرّف لنا الجبن بأنّه أنْ يتخلّف المرء عن أداء مهمّة ما بسبب فرط الخوف، ولكنّ هذا التعريف ينضوي على إشكالات عديدة؛ فما هو الواجب ومن الذي يحدّده ومن الذي يفرضه؟ وماذا يحصل لو تضاربت المهام؟ وأليسَ تحديد فرطِ الخوف حكمًا شخصيًّا؟
قد تسهل الإجابة على هذه التساؤلات عند داعش، فالواجب هو ما يفرضه "شرع ربّ العالمين" لأنّ "دولة الإسلام قامت، وبدا العزّ المهيب" وذلك بفضل "رجال أوفياء لا يهابون الحروبَ" كما يقولون في نشيدهم المشهور "أمتي قد لاح فجر".
يعلّمنا التاريخ أنّ خوف المرء من أن يكون جبانًا أو يظهر كذلك قد يورده المهالك
ولكنّ الأمر ليس بهذه البساطة في الولايات المتّحدة، أو يجدر بالأحرى أن لا يكون كذلك. فالأمريكيون يصدحون كذلك بأنّ بلادهم هي موطن الشجعان، ولكنّ بعضهم يعلمون كذلك أنّ الخوفَ من الحرب فيه شيء من الحكمة، وأنّ الواجبَ حين يحتّم إرسال جنود إلى المعارك، فإنّ الصّدمة والهلع قد يحطّمان أشجع الرجال، وهذا لا يعني أنّهم جبناء. يعلّمنا التاريخ أنّ خوف المرء من أن يكون جبانًا أو يظهر كذلك قد يورده المهالك، كما تظهر لنا خبراتنا في عصرنا هذا أنّ استخدام فكرة الجبن والتخويف منها لم تزد الطين إلا بلّة في الكثير من الأحوال.
إنّ قضيّة الجبن عصيّة على التحديد وتشوبها الكثير من التناقضات؛ إنّها تدفع البعض للتفكير ربّما بأنّ ما قامت به الولايات المتّحدة من انسحاب من العراق وأفغانستان يثبت ما قاله بن لادن عن جبن الأمريكيين وأنّ أمريكا بسياستها الخارجية ستجعل من نفسها مجرّد دولة ديمقراطيّة استهلاكيّة معزولة عن بقيّة العالم كما رأى ذلك ألكسيس دي توكفيل قبل فترة طويلة. وقد يسأل البعض عن استعداد الولايات المتحدة للخوض في الحروب وهل أنّ هذا عائدٌ إلى ذلك الخوف الزائد، حتّى لو كان خوض الحرب يعني لها الآن إرسال أعداد أقل من الجنود وزيادة أعداد تلك الطائرات بلا طيّار؟ هذا ما يقوله الآخرون عنّا على الأقل، وهذا ما يجدر بنا التفكير به بشكل أعمق للإجابة عليه. علينا أن نعيد التفكير بحقيقة واجباتنا وحقيقة الأمن الذي نريده لنا ولحلفائنا، أن نفكّر بالدستور والقوانين والتاريخ والمستقبل. وختامًا، يبدو لي أنّ فكرة الجبن رغم إعراضنا عن النّظر فيها والبحث عنها ما تزال خطيرة جدّ خطيرة.