04-أغسطس-2024
رأس يطل من نافذتين

المجموعة الشعرية رأس يطل من نافذتين (الترا صوت)

أول ما نلاحظه حين ننتهي من قراءة "رأس يطلّ من نافذتين" للشاعر التونسي رضوان العجرودي، أننا أمام كتاب شعري وليس مجموعة نصوص في كتاب. فالشاعر، ومنذ عمله الأول "فرح يختفي في المرآة" الذي صدر منذ ثلاث سنوات عن "دار الفردوس" (2020)؛ يعي جيدًا أنه يشتغل في إطار مشروع فنّي وجماليّ مخصوص، وهذا أيضًا مما يميز الكتاب الشعري الصادر عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب" في 97 صفحة.

يحفر رضوان العجرودي في مناطق متنوعة في ذاته وفي العالم، ويقسم كتابه إلى ثلاثة أبواب، أو نوافذ، يطلّ منها على ذاته وعلى العالم، وهي على التوالي: الرأس، النافذة اليمنى، النافذة اليسرى.

نافذة الرأس

يفتتح العجرودي عمله بقصيدة "رأس الهندي الأحمر"، في إحالة واضحة إلى ذات الشاعر المهشمة والمحاصرة والقلقة: "محاصر في أدغال رأسي/ بينما نار تأكل الأخضر واليابس من الذكريات".

يكتب رضوان العجرودي بجسده عن جسده، يكتب بجميع حواسه المبتورة، وعن ذاته المهشمة في العالم

هذا النص الافتتاحي هو بمثابة إطلالة على "مدارات الرعب"، والعبارة هنا للناقد التونسي محمد لطفي اليوسفي في كتابه "لحظة المكاشفة الشعرية"، إذ يقول: "لحظة المكاشفة الشعرية – لحظة ميلاد الحدث الشعري – يمثل الشاعر في حضرة الشعر وبالمقابل يمثل الشعر في حضر الشاعر ليتبدى في حضرة الشاعر وعدًا يمكن الإمساك به".

إن الشاعر إذ يمسك بالشعر يقتفي أثر الحريق الذي نشب في رأسه. أو هو كمن يتطلع من نافذة رأسه على الحرائق التي تأكل حياته.

يواصل الشاعر عبر مجموعة من النصوص، (أبوة مفرطة، الولادة بلا قابلة، العيش بحواس مبتورة)، إجراء النصوص في تيمة لا تخرج عن تنويعات لحرائق عدة. إنه يكتب بجسده عن جسده، يكتب بجميع حواسه المبتورة، وعن ذاته المهشمة في العالم وهو يعبر النهر، نهر حياته: "أعبر النهر مواسيًا البطة القبيحة التي تبكي في صدري" (ص 28).

النافذة اليمنى

يقودنا الشاعر حين نطل من النافذة اليمنى (إنفلونزا المال، ميت في جلده، تضميد جراح مخفية، الميكانيكا والتصوف) إلى صراع بين عالمين، عالم المادة وعالم المعنى، عالم الجمال وعالم القبح، عالم الشعر وعالم قتل الشاعر.

يقول: "حياتي كلّها أزهار/ يعبرها ناس وقطط وكلاب/ كمقبرة في يوم عيد/ وجسدي قبر يمشي على قدميه" (ميت في جلده، ص 32).

إنها الاقامة في العالم وما تقتضيه من شروط الصراع بين الخير والشر، وبين الحقيقة والزيف، وبين الفنّ والحرب، وبين الثعابين وأعشاش الحمام: "الشعراء خراف ترعى في هذا العشب النابت من النار والأسى" (تضميد جراح مخفية ص 34).

إنها الحرب نفسها التي يعلنها العالم ضد الشعر والشعراء، بل وضدّ الجمال، فيما: "حركة النهر صراخ صامت/ قبل أن يعشّش عنكبوت في فمك" (ص 39).

ويشير العجرودي كذلك إلى الفوضى التي تحكم العالم والعبث الذي يقوده فيما يلهو بنا الملكوت. قد تمطر أحيانًا: "ليملأ الماء كل شيء حتى الأوقات الضائعة وأفئدة الأمهات السوريات". لقد أمطرت في السماء أيضًا وفسدت الأرض وتعفنت: "استعدّ كي تصير شرايينك بلاستكيّة/ كي يصير اسمك الثلاثي رقمًا منجميًا مكتوبًا على بطاقة رمادية/ وبيتك عبارة عن رصيف بارد". 

نطل في نصوص رضوان العجرودي على تجربة الإنسان من نافذتين؛ نافذة تطل على أصله في الطبيعة وأخرى تراه وقد تحول إلى مقبرة خرداوات: "وسط هذا الزخم لم أر دمائي تنزف والكدمات في جسدي بعد طول السنين ظننتها أشجار". 

النافذة اليسرى

من النافذة اليسرى نطل مع الشاعر على نافذة القلب/الحبّ الذي يقع في العينين قبل أن يسري في كامل الجسد/ الفقدان الذي يحرث الروح ويطحن اللحم والعظم (نص من اليد إلى العين ص 70).

يتوسل رضوان العجرودي خرابه العاطفي: "سأنجو بكِ ويجفّ كل هذا الحزن/ كما يجن ذنب في قفص اعتراف". فيما يعض الليل أصابعه من على الشرفات، ويهجم ذئب على قطيع خرفانه الصغيرة.. هكذا يفعل به الحب.

الحبّ الذي ترك عضّة على ذراعه، هي العضّة نفسها التي يخرج منها سمّ الذكرى: "يا حبّي الصغير/ سقطت كل أسناني/ والحبّ لم يملأ جوفي" (ص 83).

إننا أما نافذة تراوح بين الطمأنينة والخوف، بين الحبّ والفقد، بين غفوة في الشمس وبين النظر في الظلال. بين القبض على وجود الشاعر في الحبّ، وبين أن يفتح النافذة ويرى ذاته مهشمة ووحيدة ومعزولة مثل مقبرة خردوات.

في 97 صفحة من القصائد والنصوص التي تروي سيرة شاعر في حضرة السّوء، يحملنا رضوان العجرودي عبر نوافذه لنطل على مدارات الرعب التي يجد الإنسان نفسه مطحونًا داخلها، حيث لا منقذ سوى الحبّ الذي يشفي أرواحنا من براثن العالم.

إننا نطلّ على أكثر لحظات حياتنا تراجيدية داخل عوالم تتجاذبها الأضداد والثنائية، وحيث الكتابة هي النافذة الممكنة التي تقف أمام آلة العالم المجنونة.