حين تناهى إلى أسماع زكريا الجلم، صاحب مزرعة الأبقار الواقعة في محيط مدينة جاسم، أن جنود ميليشا الأسد قد حطوا رحالهم في قلب مزرعته، انتابته هواجس جمة من الفقد والخسارة والخذلان المشوب بالعجز إزاء المصير الذي ستؤول إليه أبقاره، ومع ذلك ظل يمني النفس على مدى يومين كاملين بألا يتعامل الجنود معها كغنائم حرب، يسري عليها ما يسري على الأدوات الكهربائية والأثاث المنزلي، وكل الأشياء ذات الطابع الاستهلاكي التي قد تجد سوقًا سريعًا لتصريفها، فالأبقار من وجهة نظره حيوانات تحتاج لكثير من الرعاية لا قدرة للجندي على تحمل عناء الاهتمام بها، إلا أنه فوجئ في نهاية اليوم الثالث لمحنة أبقاره بقدرة عفيْشِة الأسد على تحويل الأحلام المستحيلة في رؤوس البشر إلى حقائق ماثلة للعيان. ردة فعل زكريا على محنته في "سرقة أبقاره الثلاثة والعشرين" كانت في صميم السخرية، وهي "تهديده بقتل جندي واحد مقابل كل بقرة مسروقة"، حيث ينحدر الوجود المعنوي أو القيمي لجنود الأسد كغزاة إلى مستوى الحيوانات المسروقة، مع قيمة تفضيلية للحيوانات المسالمة (الأبقار) كمانحة حياة على الحيوانات الشريرة (الجنود) كنهّاب لها.
في رحلة بحثنا عن الجذر الروحي للتعفيش، بكل ما فيه من تبديد ومحق للوجود الإنساني، نعثر عليه في الغزو
في رحلة بحثنا عن الجذر الروحي للتعفيش، بكل ما فيه من تبديد ومحق للوجود الإنساني وانتهاك لحق الملكية، وانتصار لفكرة أخلاق القوة التي تمجد العنف؛ نعثر عليه في الغزو. الغزو في جوهره عدوان على الوجود وتخفيض له على نحو صفري من حيث جعله عدمًا، فالغازي في حالة زكريا لا يسلب بضعة أبقار ويترك له أبقارًا أخرى، بل يُصّر على سرقتها بالمجمل تاركًا له عدمًا "بلا بقرة".
اقرأ/ي أيضًا: رفعت الأسد.. سرايا الموت
وهو من جهة أخرى ليس توزيعًا لسوء الثروة المكدسة بين يدي الأغنياء لصالح الفقراء، فزكريا ومن لف لفه ليس غنيًا ولا مغتصبًا لثروة أحد حتى يكون محلًا لتحقيق عدالة المعتدي، الذي لا يقيم فرقًا بين غني متنعم وصاحب رزق يعيش على حد الكفاف. لا يستطيع الغازي أن يتفهم تلك الصرخة أو حشرجة الألم التي يطلقها المنهوب تجاه ما له، لأنه لا يعرف طبيعة العلاقة التي يقيمها مالك الشيء مع أشيائه. فعلاقة ابن اليرموك بجهاز تلفزيونه ليست علاقة باهته لإنسان مع جهاز إلكتروني، بل هي جملة الأفكار والخطط والمشاعر التي سبقت عملية شرائه، والتي صاحبتها، وتلك التي ترسخت عبر استخدامه له، لتصبح جزءًا حيًّا من ذاكرته الشخصية، الرافضة للتسامح مع كل من يعتدي على حالة العلاقة الروحية المقامة مع الأشياء، التي قامت باستبطانها في داخلها كما لو كانت امتدادًا جسديًا لها.
تكشف العلاقة التي يقيمها المُعَفّش، سواء كان جنديًا نظاميًا أو شبيحًا في ميلشيا أو ضابطًا سلطويًا، مع الأشياء التي يقوم بنهبها أو تعفيشها عن وعي بدائي أو ساذج، يتعامل مع الثروة بوصفها كنزًا سقط عليه من السماء، لم يكلفه الحصول عليه سوى قليل أو كثير من العنف المبرر ضد متمردين آبقين على سلطة آل الأسد المقدسة. إننا إزاء وعي ساذج لا يقيم وزنًا للجهود التي بذلها أصحاب الأشياء كالكدح والتعب والقلق والمثابرة لتصير جزءًا من ممتلكاتهم، كما لا يقيم وزنًا للعلاقة بين رأسمال المال والإنتاج المتولد عنه، حيث إنه لا يعرف قيمة البقرة التي تدر حليبًا أو لحمًا، أي مالًا، ولا قيمة الإنسان الذي يجعل منها مالًا قابلًا للنهب والتعفيش.
في الحكاية التي يرويها طلاس وزير دفاع الأسد عن الخطط التي كان قد أعدها رفعت الأسد، في سياق استعداده للانقضاض على سلطة أخيه حافظ أثناء فترة مرضه، تفتق وعيه الذئبيّ عن فكرة السطو على جميع محلات الصاغة في دمشق ونقل محتوياتها إلى مدينة طرابلس اللبنانية بمعية شريكه علي عيد، زعيم الميليشيا العلوية في جبل محسن، كما تخطيطه لمنح ميلشياته التي كان يقودها آنذاك والمعروفة بـ "سرايا الدفاع" رخصة استباحة أسواق المدينة وبيوتها، بما فيها نساؤها، حتى لا يبقى واحد من جنود ميليشاته يعاني من عوز الفاقة والحرمان. تضعنا خطط رفعت الذئبية وجهًا لوجه أمام الوعي الأبله الذي كان يخامر عقل الرجل في فهمه لمفهوم الغزو باعتباره مدخلًا لكل ثروة، حيث لا تخرج الثروة، كما يفهمها، عن كونها مالًا يمتلك مرونة كبيرة في تحويله إلى نقد كما في المصاغ الذهبي، لا وظيفة له سوى التنعم به، وهو ما يتعارض مع فكرة أخيه حافظ تجاه المال، الذي لم يجد فيه وسيلة للترف وحسب، بل وسيلة تحوطية لاستعادة سلطته في حال فكر أحد ما في انتزاعها منه، الأمر الذي قاده إلى إيداع مبلغ 13 مليار في حساب باسل البنكي في سويسرا.
يقترن التعفيش الأسدي في أحد أوجهه بالعقوبة، التي قررت السلطة المملوكية لبيت آل الأسد إنزالها بالمحتجين على سوء إدارتها للشأن العام
يتقاطع الوعي الذي أبداه رفعت الأسد عام 1985 تجاه رغبته الصادقة في تقاسم غنائم مدينة دمشق مع ميلشياته، مع الوعي الذي يبيده بشار حاليًا تجاه مليشيات الدفاع الوطني وجيشه الذي تحول بفعل سعار النهب إلى ميليشيا أيضًا؛ بأن لدى المدن والقرى السورية المنهوبة والمسلوبة القدرة على تأمين مصدر دخل مغرٍ لميليشياته التي تشارك في عمليات الغزو، وعلى قدرتها في آنٍ معًا على تجديد طاقتها الإنتاجية في توليد مزيد من المال القابل للنهب من جديد، متناسيًا عن سوء تقدير أن كل غزوة تقوم بها قواته كانت تستهدف نهب رأس المال القادر على خلق مال جديد، إضافة لفرار معظم سكانها الذين وضعتهم الميليشيا الأسدية تحت خطر الإبادة الجماعية، الأمر الذي أحالها إلى أرض يباب لا تصلح للغزو مرة أخرى، وهو ما استدركته السلطات الأسدية لاحقًا بشأن أهمية عودة السكان المحليين إلى قراهم ومدنهم التي فروا منها، ليوفروا للغزاة المتعطلين عن العمل موارد متجددة للنهب.
اقرأ/ي أيضًا: الجيش في سوريا.. من عقائدية المؤسسة إلى مليشيا العائلة وطائفيتها
يقترن التعفيش الأسدي في أحد أوجهه بالعقوبة، التي قررت السلطة المملوكية لبيت آل الأسد إنزالها بالمحتجين على سوء إدارتها للشأن العام، ذاك أنها تتعامل مع كل احتجاج على سلطتها بمثابة تمرد يستوجب الرد عليه بلائحة عقوبات رادعة من العيار الثقيل، تبدأ من إزالة المتمرد من حيّز الوجود المادي على نحو عنيف أما عبر القتل الميداني أو التعذيب حتى الموت، ومن ثم الانتقال للتخلص من كل أثر مادي قد يشير إليه أو يربطه بالحياة اليومية أو ذاكرة الناس، عبر مصادرة ممتلكاته الشخصية، أي تعفيشها، بغض النظر عن قيمتها، ليصار لاحقًا إلى تطهير المكان الذي كانت تسكنه أو يسكنها من الرجس والنجاسة التي أحدثتها به من خلال طقوس التطهر الوثنية عبر النار.
مثلت اللحظة التي تكللت باستيلاء حافظ الأسد على المُلك، أي السلطة عام 1970، اللحظة الذهبية لنجاح غزوته الكبرى ضد الشعب السوري التي قام بها بالتعاضد مع أبناء عصبيته الطائفية، ليتعرف على حقيقة نفسه كزعيم مطلق الصلاحيات أمام أبناء عصبته المشاركين بالمجد، وسيد مرهوب الجانب أمام الشعب السوري، الذي سيصير وفق علاقات القوة التي أحدثها بمنزلة الرعايا أو العبيد، وليس المواطنين، أي الأفراد الذي يتمعون بحقوق متساوية مع حاكمهم الجديد، لذا نراه يركز جل اهتمامه على الكيفية التي سيتم فيها توزيع الغنائم على أصحابه، مع ضمانه لتبوئ مركز الزعيم الذي يحوز على حصة الأسد منها، والقادر على إصدار الأوامر وضمان تنفيذها من قبل تابعيه، كما على الطريقة التي سيحصل بها الخوّات المفروضة على رعاياه على نحو لا يدفعهم للتمرد عليه على نحو جماعي قد يهدد استمراره بتسلطه عليهم.
لقد وعى حافظ الأسد كزعيم لعصبية منذ وقت مبكر أهمية تمكين أفراد عصبيته من غنائم غزوته الكبرى، المسماة بـ"غزوة الحركة التصحيحية"، التي يتوجب عليه توفيرها لهم عبر جهاز سلطته المملوكي، أي دولته، لذا نراه يفرد حصة كبيرة من حجم ميزانيتها لأهم جهازين في دولته المتمثلين بالجيش والمخابرات، وهي حصة قد تصل في حدودها الدنيا إلى نسبة الستين بالمئة، بحجة الحرب مع إسرائيل، فيما هي بالحقيقة مخصصة لإرضاء رغبات حاشيته المكلفة بحماية ملكه أو سلطانه من أي تمرد، التي ما إن يمنحها القليل حتى تطالبه بالمزيد، الأمر الذي دفع به لإطلاق عقالها من يديه لتقوم بتحصيل حصتها الإضافية بأيديها، تار ة عبر سرقة مخصصات جنودهم من الطعام والملابس وغيرها، وتارة عبر عقود العمل بالباطن المسمى سوريًّا بـ"التفييش"، وصولًا إلى حيلة الخمسمائة ليرة الضائعة مقابل الحصول على إجازة غير مستحقة للجندي الدافع، وغيرها من الحيل التي لا تخطر على بال جنيّ سوى انكشارية البلاط الملكي الأسدي .
يجتر بعض السوريين سواء من المستفيدين من نظام الدولة المملوكي، أو من الناس الطيبين الذين يقع عليهم دفع عبء الخوة المقنعة المسماة "رشوة"، بأن الأسد الأب بريء من أعمال اللصوصية التي تقوم بها حاشيته، لأن الرجل دائم الانشغال بالقضايا الكبرى مثل تحرير فلسطين وحل المسألة الطائفية في لبنان وغيرها.
اعترف أنصار الأسد أم أنكروا دور الأسد في رعاية نظام الرشوة في دولته، فإنها تظل في جوهرها عملية تحصيل لغنيمة مستحقة على رعايا مهزومين
في بحثنا عن مصداقية الحجج التي يسوقها الناس لتنزيه الأسد وعائلته عن الفساد، نجد أنفسنا مندهشين أمام قدرة بعضهم على ممارسة النفاق والتدليس تجاه زعميهم المحبوب حتى في مجالسهم الخاصة، فيما كنا نعتقد أن نفاقهم متعلق بالسطوة الأمنية لأجهزته الأمنية. اعترف أنصار الأسد أم أنكروا دور الأسد في رعاية نظام الرشوة في دولته، فإنها تظل في جوهرها عملية تحصيل لغنيمة مستحقة على رعايا مهزومين، لا مفر أمامهم من دفعها لأصاحبها ولو بعد حين.
اقرأ/ي أيضًا: مافيوية نظام الأسد.. شظايا المجتمع ضد نفسها
أثبتت ثورة السوريين عام 2011 استحالة استمرار نظام التعفيش الأسدي، بنسخته الباهتة كنظام للرشوة أو للخوّة، بحجة ضعف القوى الشرائية لموظفي القطاع العام، الأمر الذي يرغب الأسد وأنصاره أن يظهروه كما لو كان نظامًا طبيعيًا لتوزيع الدخل بين فقراء وأغنياء، فيما هو في الحقيقة نظام تحصيل لغنيمة مؤجلة ما فتأت تتجدد عبر السنوات والأشهر التي تلت زمن الغزوة الكبرى، تم فرضها من قبل دولة الأسد على مستحقيها بالقوة ومنح لأصحابها حق تحصيلها بالطريقة التي يرونها مناسبة، كما لو كانت حقًا طبيعًا وليست عملًا لصوصيًا مقنعًا.
إن مشهد الجنديين الأسديين اللذين يطلقان الرصاص على متظاهري ثورة 2011 من داخل احدى العربات المدرعة، وهما يصرخان على المتظاهرين السلميين "بدكن حرية؟ أي خذوا حرية"، هو انحياز حقيقي لنظام الخوّة الأسدي الذي يقسم السوريين إلى فاتحين وعبيد، ويشرعن قتلهم وتخوينهم لأنهم يرفضون الاستمرار في العيش تحت عباءة هذا النظام اللصوصيّ.
حاول حافظ أسد، عام 1980، التنصل من حصة عصبيته القبلية في الغنيمة، عبر دعوته لأبناء طائفته بالانخراط في مجالات الأعمال المولدة للدخل، إلا أن دعوته لم تلق آذانًا صاغية، من حيث كون العائد الذي يحصله عليه الفرد من الأنشطة الانتاجية الأخرى لا يقارن بأي حال من الأحوال من العمل الحكومي في دولة الأسد، الذي يؤهل صاحبه لجني حصاد غنيمته المؤجلة والمستحقة كما لو كانت رسمًا حكوميًا، أو قيامه بالسرقة وفق نظام لجان الشراء الذي يترواح بين 8 و10 بالمئة.
في سبيل تحصيل الخوّة التي رفض دفعها أبناء الشعب السوري لأسيادهم من أبناء النظام الأسدي، قام الجنود الغاضبون المهددون بمصدر رزقهم ليس بنهب الغنيمة المتأخر دفعها فحسب، بل بنهب المجتمع الذي يقوم بإنتاجها أيضًا، ولما أدركوا فداحة فعلتهم قاموا بدعوة عبيدهم الآبقين من جديد إلى حضن عبوديتهم، غير عابئين باستحالة عودة الزمن العبودي مرة أخرى، وفق مقولة هرقليطس الشهيرة عن سيالة الزمن وتدفقه على نحو دائم "لا يمكن للمرء عبور مياه النهر مرتين".
اقرأ/ي أيضًا: