هناك قصة بعنوان "المنزلق" وردت في كتاب "أطفال غسان كنفاني" الذي تضمن مجموعة قصص كتبها كنفاني ووجّهها للأطفال، وهيَ تركّز في معظمها على مفهوم البطولة الطفولية، كما يجب أن يُدركها الأطفال ويعقلوها في أذهانهم، والقصة تحكي عن تلميذ عبقري، يتمتّع بذكاء وقاد، ويمتلك عقلًا لديه قدرة عجيبة على التخيّل وقصّ القصص وحكايتها.
تُركّز القصة على الذكاء كقيمة بطولية يتميز بها الطفل الفلسطيني، فالذكاء والذهن المتقّد والخيال الخصب بحسب القصة السابقة هي كلّها قيم بطولية طفولية تُعطي الطفل الفلسطيني في حال امتلاكه لها ميزة نسبية عن أقرانه وتجعل منه بطلًا حقيقيًا.
والأطفال الفلسطينيون كغيرهم من الأطفال لهم خيالاتهم الخاصة، فهم يحلمون بالكائنات العجيبة تارة، وبالأصدقاء الخياليين تارة أخرى، يتخيلون ما يودون أن يُصبحوا عليه، ولكنّ لا شيء يُشوّه خيالاتهم ويقتلها كما تَفعل الحروب، فالحروب تسلب منهم قدرتهم على الحلم والخيال، وتُصبح أقصى آمالهم العودة إلى الأوقات التي سبقتها.
الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، والتي ذهب ضحيتها أكثر من 4000 طفل، قوّضت الكثير من الطاقة التخييلية في عقول وأذهان أطفالها، وكان هناك العديد من المشاهد لأطفال يقفون أمام مشاهد دمار بيوتهم واستشهاد أهلهم وأحبائهم مشدوهين، وكأنّ خيالهم دخل في حالة إنكار، فهو يَعرف أنّ ما حدّث كان واقعًا أليمًا، لكنّه يَستقبله ويُعرّفه في نطاقه ككابوس أسود وحلم قاتم يجب الاستفاقة منه سريعًا.
لا شيء يُشوّه خيالات الأطفال ويقتلها كما تَفعل الحروب، فالحروب تسلب منهم قدرتهم على الحلم والخيال، وتُصبح أقصى آمالهم العودة إلى الأوقات التي سبقت أزمنة الحرب
مشهد أوّل لطفل يُشجّعه من حوله من العاملين في الدفاع المدني على الخروج من تحت الأنقاض قائلين: "هَي البطل رح يِطلَع لحاله"، ويَظهر فيه سعي الطفل الحثيث للخروج ودفعه لجسده للأمام بكلّ ما أوتيَ من قوة، وكلّما اقترب من الخروج تعالت الأصوات من حوله: "يلا يا بطل يلا"، ينجح الطفل في الخروج من تحت الأنقاض وعلى شفتيه ابتسامة انتصار، وكأنّ صورة البطولة في خياله قد تقزّمت وتقلّصت، فلم تَعد في صورته الطبيعية كطفل يجلس في المدرسة ويجيب إجابة صحيحة يمنحه الأستاذ على إثرها نجمة على جبينه ويقول له: "شاطر يا بطل"، وإنّما باتت تُختزَل في صورته الآنية التي أفرزتها وحشية الحرب وقساوتها، تلكَ التي يُمثّل فيها خروجه حيًا من تحت الأنقاض أقصى صور البطولة وأفضلها.
مشهد ثانٍ تظهر فيه طفلة تَقف أمام منزلها المدمّر تبكي بحرقة وأمّها تقول لها من خلف كاميرا التصوير: "ليش بتبكي، مش حكيتلك إنو انقصف؟"، يبدو خيال الطفلة هنا غيرَ مصدّقًا للحقيقة الماثلة أمامه، وكأنّه يبحث عن صورة أخرى للمنزل قبل قصفه، وكأنّه يُريده كاملًا، بجميع زواياه وأركانه، وغرفه وحاجياته، وحتى حجارته.
مشهد ثالث لطفل كتب عنه أحد أقربائه بأنّه طوال سنوات حياته كان يمتلك صديقاَ خياليًا هو "سبايدرمان"، يُكثِر الحديث عنه والكلام عن مغامراته الخيالية معه، وأنّه عندما شاهده في أيام الحرب، لاحظ عليه أنّه لم يأتِ على ذكر صديقه الخيالي، فلما سأله عنه، قال الطفل: مات، ولما سأله عن كيفية موته أجاب الطفل: انقصف!
لعلّ إجابة الطفل السابقة تختزل الإجابة حول السؤال الذي يثيره العالَم المتفرّج على غزة حول تأثير الحرب على خيالات أطفالها، فهذه الحرب لا تفعل شيئًا بخيالات الأطفال سوى أنّها تقصفها وتقتلها المرة بعد الأخرى.
