كثيرون يهاجمون الجمعيات المدافعة عن الحريات الفردية ويعتبرون مطالبها مثالية بعيدة عن هموم الواقع. قبل مدة، أثارت مسودة مشروع القانون الجنائي حين طرحه للنقاش العام الكثير من الردود خاصة فيما يتعلق بجانب الحريات الفردية، فبينما أيدت مضمون القانون أطراف يمكن وصفها بالمحافظة من بينها إسلاميون، لم يتوانَ البعض في وصف مناصري الحريات الفردية بأوصاف قدحية كالإباحيين أو التشكيك في نواياهم أو اتهامهم بتصريف أجندات خارجية.
في 6 تموز/يوليو 2015 حوكمت فتاتان بإنزكان (قرب أغادير) بتهمة "الإخلال بالحياء العام" في قضية عُرفت في وسائل الإعلام بقضية "التنورة" على إثر الاعتداء اللفظي والمعنوي الذي تعرضتا له في سوق مركزي بسبب عدم تقبل المعتدين لهندامهما المشكّل أساسًا من التنورة القصيرة، وبدل أن تتم حمايتهما ودعمهما معنويًا من قبل رجال الشرطة ممن أسند إليهم السهر على تنفيذ القانون، وحسب تصريح لبرنامج إذاعي جمع الفتاتين ومحاميهما، اعتدي عليهما لفظيًا ونفسيًا داخل مقر الاحتجاز.
هذه الواقعة وحدت مختلف الجبهات الحقوقية والحداثية حتى تلك المتخاصمة فيما بينها، كما تبنى الدفاع عن الفتاتين نحو 400 محام متطوع
هذه الواقعة وحدت مختلف الجبهات الحقوقية والحداثية حتى تلك المتخاصمة فيما بينها، كما تبنى الدفاع عن الفتاتين نحو 400 محام متطوع، فيما تقمصت بعض تيارات الإسلام السياسي خاصة المتواجدة على السوشيال ميديا، من بينها حتى صفحة "رصد" التي يديرها مقربون من جماعة العدل والإحسان الإسلامية المعارضة، ذرع المدافع عن الفضيلة والأخلاق، ونزلت بكل ثقلها إلى ساحات التواصل الاجتماعي لتشن حملة قوية ضد الفتاتين وضد كل من تبنى الدفاع عنهما.
اقرأ/ي أيضًا: كيف تصبح اتفاقيات حقوق الإنسان ستارًا للانتهاكات؟
جدّت أيضًا سلسلة من الأحداث، لعل أبرزها اعتقال شابين تبادلا القبل بمحيط مئذنة حسان بالرباط، وعمدت وزارة الداخلية في بلاغها إلى ذكر الموقوفين بالاسم والعنوان السكني، ثم توزيع صورهما على الصحف والمواقع في تجاوز لمقتضيات القانون التي لا تسمح بالتشهير أو بإشهار هويات المشتبه بهم في أفعال جنحية، بعد ذلك انتشر فيديو لمسيرة شبابية ضدهما بزقاق شعبي وعلى مقربة من منزل أحد المشتبه بهما.
كلما اندلعت قضية موضوعها الحريات الفردية إلا وردّ الإسلاميون أو المتأثرون بخطاباتهم مهاجمين المعنيين بها وكل من يدافعون عن الحق في الخصوصية الفردية. إبان الحراك الاجتماعي السياسي في 2011، هدد بن كيران بالتصويت بـ"لا" على الدستور بعد تسريب خبر يفيد بمناقشة اللجنة المُعدة للدستور مقترح التنصيص على حرية المعتقد، يومها صدح بن كيران قائلًا: "ماذا تعني حرية العقيدة؟ السماح بالإفطار خلال رمضان؟ إشاعة الحرية الجنسية والشذوذ بين الناس؟". بعد كل تلك الوقائع التي هاجمها إسلاميون، استفاقت حركة التوحيد والإصلاح الجناح الدعوي للعدالة والتنمية، على واقعة هزت كيان هذا التنظيم على إثر إيقاف الأمن العضوين البارزين في الحركة، فاطمة النجار وعمر حماد في وضعية وصفت إعلاميًا بـ"المخلة بالحياء"، وهنا فقط انبرى طيف واسع من الإسلاميين مدافعين عن المشتبه فيهما، ورغم أن بيان حركة التوحيد لم يكذب تهمة التوقيف، والمعنيان بدورهما لم يكذبا ما جاء في محاضر الشرطة من أفعال منسوبة لهما، إلا أن هؤلاء المدافعين لم يتوقفوا عن تقديم الدعم اللامشروط بشكل يثير كثيرًا من الاستغراب.
أمام كل هذا التناقض والتغيّر في الموقف الرئيس الذي تأسس عليه الخطاب الذي تبنته الحركة ومعها الحزب، وهو حماية الأخلاق التي شرعا لنفسيهما من خلالها فرض الوصاية على الحياة العامة والخاصة للأفراد، يظهر أن دفاع الحركة والحزب على عضوين داسا على أهم مبدأ في الميثاق الأخلاقي والأيديولوجي لهذين الكيانين، لم يكن موفقًا، فلو تم هذا الدفاع عن قناعة، أو لنقل عن قراءة تجديدية لمواقف الحزب، لرفعنا لهما قبعاتنا، ولو انضم هؤلاء لخصومهم المطالبين بإنهاء الفصل الجنائي 490 الذي يشرعن لاستمرار محاكم التفتيش في المغرب، لأعلنا بدورنا تضامننا اللامشروط مع هذين المواطنين، إلا أن إصرار هؤلاء على التشبث بمنطق التقية والطهرانية وتقديس المشايخ ورفعهم إلى درجة تكون فوق جميع الدرجات، والتجند مسبقًا للحكم بأن أخطاءهم متجاوزة ولا يمكن محاسبتهم عليها كمحاسبة بقية الناس، وأيضًا التمييز بين أخطائهم وأخطاء عامة الشعب على أساس أن لهؤلاء في الدنيا فضائل تمحو ما ظهر ومن لم يظهر من أخطائهم، وكأن الكفاءات التي يزخر بها المغرب في مختلف المجالات والتي خدمت بدورها كل منها من موقعها هذا البلد، لا فضائل لها لتمحو أخطاءها، كما كتب حماد القباج الإسلامي المقرب من العدالة والتنمية في تدوينة له: "نعم أخطآ باستباحة نوع من التواصل غير المشروع وهذا غاية ما حصل... وهي زلة مغمورة في بحر الفضائل...".
اقرأ/ي أيضًا: المغرب.. منع سلفي من الترشح في الانتخابات
إن المؤسف في الأمر، أن هؤلاء المدافعين عن عمر وفاطمة -وفي دفاعهم ذلك كنا نلمس نوعًا من الذاتية والإحساس بالتميز عن باقي المغاربة- أن طلبهم اقتصر على تجميد الفصل المذكور في حق المتهمين الاثنين المنتميين لفصيلهما فقط، ولم يدعوا هؤلاء إلى إلغاء هذا الفصل كليًا حتى يستفيد من عدم المتابعة العديد من المغاربة ممن أوقفوا في أوضاع مشابهة سواء في نفس تلك الليلة "المشؤومة" أو في الليلة التي سبقتها أو الأسبوع الذي سبقها أو الليالي التي لحقتها، أو مئات من المغاربة ممن يتم توقيفهم طيلة ليالي السنة تحت طائلة نفس الفصل؛ أليس من حق آلاف المغاربة ضحايا هذا الفصل الوارد في القانون الجنائي الذي جاء به وزير العدل مصطفى الرميد ودافع عنه باستماتة ضد منتقديه، عدم تدخل الدولة في الشؤون الخاصة بهم.
إن الهدف الأسمى للقانون، ليس هو قمع الإنسان أو التضييق على حريته التي هي مجموع ما يملكه من حقوق، بقدر ما هو حماية حقوقه وكيانه من أي اعتداء، مادي كان أو معنوي، وإنه لعلينا التفريق بين الحياة العامة أو ما يسمى في القانون بالأخلاق العامة، وبين الحياة الخاصة (الأخلاق الخاصة). ولما كان القانون لا يتدخل في الحياة الخاصة للأفراد، ففي المقابل مطلوب منه حماية الحياة العامة فمن اختار العيش وسط مجتمع هو ملزم باحترام هذه القوانين التي وضعت لتنظيم مكونات المجتمع فيما بينها، وحماية التعايش بينها حسب خصوصيات كل مجتمع وتقاليده، فمثلا ممارسة الجنس في الشارع العام محظورة في أعرق العلمانيات الأوروبية، وذلك كون القانون وضع للحفاظ على علاقة الفرد بالمجتمع الذي يعيش وسطه وليس لمحاسبة أو معاقبة هذا الشخص على ما هو بينه وبين ضميره أو بينه وبين خالقه، ما لم يفعل ما يمس حقوق الآخر أو يشكل استفزازًا حقيقيًا لحيائه.
اقرأ/ي أيضًا:
التعليم المغربي.. أرقام صادمة رغم خطط الإصلاح
تعليم أفضل.. تعليم بالمجان: مطالب المغاربة