يقول رولان بارت في كتاب الغرفة المضيئة "الصورة هي متتالية من (انظروا).. هي نوع من المواجهة". من منطلق مشابه لـ"انظروا" يضعنا المخرج الأمريكي تيرانس ماليك منذ لقطات مشاهده الأولى أمام طبيعة لا يهدف بها إلى تعريفنا على المكان، ولكن لنتماهى مع هذه الطبيعة، نتنفسها، نعيش فيها، لأنها لن تتركنا طوال الفيلم، فهي بطل رئيس سنخوض معه الرحلة.
لعل فيلم تيرانس ماليك الأشهر "The Tree of Life" واحد من أهم الأفلام التي لا تنفصل فيها الطبيعة عن الحكاية، فالحضور الآسر للأرض ككوكب صغير وسط فضاء شاسع، والأرض كنقطة في مدار الشمس، والإنسان كفرد وحيد وسط الملايين من البشر يعزف موسيقاه بشكل منفرد، إلا أن فقدان الأم -بطلة الفيلم- لطفلها وحزنها عليه يُشبه انفصال الإنسان عن الطبيعة الأم، ويشبه أيضًا انفصال الجندي عن أمه بسبب الحرب كما في فيلم The Thin Red Line. هذا الانفصال الذي يُربكه طول الوقت، فيتذكرها أثناء الحرب، يتذكر لمساتها واحتضانها له.
لعل فيلم ماليك الأشهر "The tree of life" واحد من أهم الأفلام التي لا تنفصل فيها الطبيعة عن الحكاية
"أين كنت أنت عندما قمت أنا بتأسيس الأرض؟"- شجرة الحياة.
لا يطرح تيرانس ماليك الأسئلة في البداية لتنتظر منه الإجابة، هو لا يملك سوى فلسفته في الحياة التي يصوغها في أفلامه بـ"موتيفات" سمعية وبصرية تغوص في قلب الحكاية فتصبح التساؤلات مجرد أسئلة تسحب في الفضاء، تخترق حدود الأرض لتصل إلى سماء الله، لكننا على كل حال لا ننتظر إجابات.
يختار تيرانس ماليك المونولوجات الداخلية في السرد، ينقل لنا بحميمية شديدة القلق الإنساني الكامن في قلب شخصياته، كأنها ثرثرات ذاتية خفية لا يسمعها أحد، حالة تأمل لا تنتهي، في فيلم "To The Wonder" يبدأ الفيلم بمونولوج شديد العذوبة أشبه بالقصيدة "فتحت عيني واندمجت.. في تلك الليلة الأبدية.. ثم ضوء خافت.. جذبني كما تجذب النار الفراشة.. أخرجني من الظلام ورفعني من على الأرض.. أعادني للحياة".
وفي فيلمه الأخير "Knight of Cups" يقول ريك بطل الفيلم "عندما ترى امرأة جميلة، أو رجلًا، فإن الروح تذكر الجمال الذي اعتاد أن تعرفه في السماء.. والأجنحة تبدأ في الظهور.. وهذا يجعل الروح تود التحليق".
اقرأ/ي أيضًا: فرقة "مونتي بايثون" وكوميديا أفلام السبعينات التي لن تتكرر
هذا التحليق يحققه بالفعل في أفلامه، نرى الأم في "The Tree of Life" ترتفع عن الأرض وتطير وتدور كأنها ريشة خفيفة في الهواء، وهذا التحليق نراه في خفة كاميرا مدير التصوير "إيمانويل لوبيزكي" الذي يدور حول الشخصيات، لا يضايقهم في الكادرات ولا يتلصص عليهم، بل يحلق حولهم، تتحول الكاميرا إلى جزء من الحكاية، لا أحتاج أن أرى الشخصيات أكثر فبإمكاني أن ألمسهم، أن أرى هذه الطاقة التي تنبعث منهم، أن أفهم هذا التماهي معهم، ثم أعود مرة أخرى إلى رأسي بعد أن شغلته الأسئلة دون أن يدري.
الحياة ليست اختيارًا، لكن حضور الحياة في أفلام تيرانس ماليك هو اختياره الشخصي، هذا الحضور يختلف عن أي صانع أفلام آخر يقرر أن يُظهر الحياة في أفلامه بشكل مغاير، ربما لا يرى تيرانس ماليك الحياة سعيدة وعادلة، لكنه يراها جميلة، والوجود الإنساني هو جزء من هذا الجمال الذي يُكمل طعم الحياة، وإن كانت موضوعات أفلامه عادية جدًا إلا أنها تُشبهنا، ومشاعرنا تجاهها واحدة، يتماهى ما بداخلنا مع ما نراه، فندور معه في دوائر خاصة يصنعها لنتورط فيها بمحبة شديدة.
صنع لنا تيرانس ماليك رباعية -من أفلامه الأربعة الأخيرة- هي حلقات متصلة ببعضها، تهيم في فضاءات شاسعة البراح
تقول الأم في فيلم "The Tree of Life": "بُني.. هل ستقف كالقنبلة وحيدًا؟..الطريقة الوحيدة كي تكون سعيدًا هي الحُب.. إلى أن تحب، حياتك ستكون كالوميض" وهي نفس الجملة التي يختم بها تيرانس فيلمه السابق "The Thin Red Line".
صنع لنا تيرانس ماليك رباعية –من أفلامه الأربعة الأخيرة- هي حلقات متصلة ببعضها، تهيم في فضاءات شاسعة البراح، كأرواح بريئة تنشد الحب، والسعادة، فيساعدنا بشكل أو بآخر على تقبل معاناتنا ربما نكون ضللنا الطريق للحياة.
اقرأ/ي أيضًا:
فيلم الفتاة الدنماركية "The Danish Girl" وسؤال: هل تعيش ذاتك؟