يورِد الباحث نبيل عبد اللطيف في بحثه بعنوان: "ابن خلدون بين التاريخ وفلسفة التاريخ"، بأنّ لحظة ابن خلدون تُمثّل لحظة فارقة في الفكر العربي، حيثُ يجوز لنا اعتبار بداية تأريخه للتاريخ العربي والإسلامي بمثابة نقلة نوعية في هذا التاريخ، فهو بحسب الباحث مؤرّخ تفوّق على سابقيه من المؤرخين مثل المسعودي، وابن إسحاق، والطبري والواقدي وغيرهم، وانتقل بتأريخ التاريخ من استخدام الأساليب غير العلمية القائمة على النقل والإخبار، والتي يغلب عليها التقليد وغياب التحقيق والمبالغة في نقل الروايات، إلى استخدام أساليب علمية يغلب عليها التدقيق والنظر والتأمّل وغيرها.
يستكمل الباحث ثناءه على منهجية ابن خلدون في تأريخ التاريخ، ويُورد بأنّ ابن خلدون كان ينظر إلى التاريخ بصفته وعيًا إنسانيًا ويُحمّله رؤيته النقدية للواقع، ويجعل منه موضوعًا لتأمّل الحاضر ومنطلقًا لاستشراف المستقبل، ويقول حول فلسفة التاريخ عند صاحب "كتاب العبر": "فلسفة التاريخ الخلدونية قامت على رؤية نقدية لمعاصريه وسابقيه، فكان تصوّره للتاريخ بمثابة التصحيح لمسار ساد طويلًا في التاريخ العربي والإسلامي".
تقوم فكرة الخلدونية المضادة ضدّ كلّ أبوية في الفكر والتفكير، وتدعو إلى أن يتمّ إحياء ذكرى المؤرخين والمفكرين الكبار بالعودة إلى آثارهم الفكرية والمعرفية، ونبشها والتنقيب والبحث فيها
فكّرتُ وأنا أقرأ ثناء الباحث –في البحث السابق- على ابن خلدون ومنهجيته في تأريخ التاريخ، بأنّ هذه المنهجية العلمية كفيلة بأنّ تجعل إنتاجه المعرفي خاليًا من الأخطاء المعرفية والإبستمولوجية، كالتحيّزات أو عدم الموضوعية أو التأثّر بالمزاج الشخصي.
أثناء بحثي في مدى صحة افتراضي حول كمال الإنتاج المعرفي عند ابن خلدون، عثرتُ في كتاب "سيرتي ابن بطوطة وابن خلدون"، على محور يحمل عنوان "حاشية: عن غلطات ابن خلدون"، وهو محور يتحدّث فيه المؤلّف بنسالم حميش بأنّ الموضوعية لم تكن هي الصفة السائدة دومًا في منهجية ابن خلدون، فهو وقع في الكثير من الأحيان في أخطاء معرفية نتيجة تحيزات شخصية ودينية، وذلك عندما كانت تغلب عليه مشاعره الشخصية أو مشاعره الدينية.
ومن أشكال التحيزات التي سببها غلبة المشاعر الشخصية -في الحبّ والكراهية- التي يذكرها المؤلّف، أنّ إيمانه بفكرة عصبية النسب ودورها في نشوء الدول أو انهيارها جعلته بتعبير الباحث "يقف مع المتغلب الأقوى، فيحصر التاريخ في الإخبار عما يكتبه منطق الغلبة والقوة، ويبقي خارجه جماهير المغلوبين ومن لا تعضدهم عصبية"، ومن تحيزاته الشخصية كذلك، عزوفه عن الإخبار عمّن لا تُعجيه سيرتهم وفكرهم، مثل قوله المختزل جدًا عن عبد الحقّ ابن سبعين أنّه "رحل من بلدة مرسية إلى تونس"، قافزًا عن فترات مهمة في حياة الرجل عاش فيها مدة عقد ويزيد في سبتة وألّف فيها أهم نتاجه المعرفي وأخصبه.
أما عن التحيّزات التي سببها غلبة المشاعر الدينية عند ابن خلدون، فمما يذكره المؤّلف، نزوعه إلى الدفاع عن طهرية الخليفة هارون الرشيد، ولجوئه إلى استخدام الحجج الضعيفة لإثبات فضيلته وتقواه وزهده، رغمّ إقراره بمظاهر الترف والبذخ والإقبال على الدنيا الذي تفشّى في عهده، وعن تحيزاته الدينية -كذاك-، يذكر المؤلّف غلوّه في الانتصار للأب الروحي للدولة الموحدية، المهدي ابن تومرت، إلى حدّ تعليقه على ادعائه الانتساب إلى أهل البيت بأنّه "لا دليل يقوم على بطلانه".
إنّ اكتشاف كلّ هذه التحيزات الشخصية والدينية عند ابن خلدون، قادني إلى فكرة الحاجة إلى خلدونية مضادة كما أوردها عبد السلام بنعبد العالي في كتابه "منطق الخلل"، وهي فكرة يؤكّد فيها بنعبد العالي على ضرورة أن يتخلّص الباحثين والدارسين من نزعة التقديس والتبجيل الأعمى للمنتَج الفكري للمفكرين والمؤرخين الكبار كابن خلدون، وذلك حتى يتمكنوا من التفكير معهم وبهم، وحتى يستطيعوا أن يتجاوزوهم ويكونوا استمرارًا لهم.
إنّ فكرة الخلدونية المضادة التي دعا إليها بنعبد العالي تقوم ضدّ كلّ أبوية في الفكر والتفكير، وهي فكرة تدعو إلى أن يتمّ إحياء ذكرى المؤرخين والمفكرين الكبار، بالعودة إلى آثارهم الفكرية والمعرفية، ونبشها والتنقيب والبحث فيها، وعمل مراجعات نقدية جادة لها، حيثُ يُورِد في هذا الإطار: "على هذا النحو لا يُمكن لإحياء الذكرى أن يتمّ بامتداح المفكّر والنظر إليه على أنّه فلتة لن يجود التاريخ بمثلها، ولا باسترجاع القضايا التي طرقها للبحث عما إذا كان لها امتداد في حاضرنا... إحياء الذكرى هو أن نجعل الماضي ينفجر اندفاعة نحو المستقبل، تفتحًا على المستقبل بطبيعة الحال، ولكن أيضًا وفاء للماضي".
إنّ الخلدونية المضادة، كما تدعو الباحثين والدارسين إلى نزع هالة التقديس عن المنتجات الفكرية والمعرفية للمؤرخين والمفكّرين الكبار، فإنّها تدعو المؤرخين والمفكرين أنفسهم إلى التواضع المعرفي وإلى الإقرار بأنّهم مهما كانوا حريصين على اتباع الأساليب العلمية والموضوعية في التأريخ والكتابة البحثية، فلا بدّ أن يَقعوا في أخطاء معرفية شتى، فهي تدعوهم إلى الإقرار الدائم بعدم كمال منتجهم المعرفي، وإلى العيش الدائم في أجواء الندم الفكري، التي تدفع بهم إلى طلب المراجعة والنقد الدائميْن لهذا المنتج، وكم كان ابن خلدون مُدرِكًا لهذه الفكرة ولمضامينها من غير أن يدري، عندما أقرّ بقصور منتجه المعرفي وكتبَ طالبًا النقد والتقويم: "وأنا من بعدها موقن بالقصور، بين أهل العصور، معترف بالعجز من المضاء، في مثل هذا القضاء، راغب من أهل اليدّ البيضاء، والمعارف المُتَّسعة الفضاء، في النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتغمُّد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء".