يطفو على السطح مؤخرًا مصطلح "الحرب الباردة الجديدة" لوصف العلاقات الأمريكية الروسية، خاصة في الفضاء الرقمي، بعد التدخل الفاضح لموسكو في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، التي تشير معطياتها إلى أن روسيا تمكنت من قرصنة أعداد هائلة من صفحات ومنصات التواصل الاجتماعي، واخترقتها. بل بثت موادًا دعائية كان هدفها التلاعب بانطباعات وقرارات الناخبين الأمريكيين من الحزب الديمقراطي، ودفعهم لعدم المشاركة في الانتخابات والتصويت أصلًا، الأمر الذي ساهم بطريقة غير مباشرة بفوز المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية دونالد ترامب.
يأتي المفهوم الجديد الذي أطلقته كلينتون، أي "الحرب الباردة الجديدة"، في ظل سعي واشنطن للاستغلال الأمثل لوسائل التواصل الاجتماعي ترويجًا لقيمها وسياساتها الخارجية
قوبل التدخل الروسي بتهديد أمريكي متكرر بفرض عقوبات على روسيا في حال تدخلت مرة أخرى في انتخابات أمريكية، لاسيما الانتخابات النصفية التشريعية. تنبع الأهمية في التعاطي مع الحملات الانتخابية الأمريكية، انطلاقًا من كونها باتت تستخدم التكنولوجيا الرقمية كاستراتيجية أساسية في الوصول إلى الناخبين الأمريكيين. فكانت الحملة الانتخابية للرئيس باراك أوباما محطة فارقة في تاريخ الحملات الانتخابية السياسية على مستوى العالم، كونه أول من وظف وسائل التواصل الاجتماعي للترويج لأفكاره وبرنامجه الانتخابي، مستهدفًا الأجيال الشابة، من الأعراق والإثنيات كافة، بشعارات تلامس احتياجاتهم وتطلعاتهم المستقبلية، بعيدًا عن الخوض في حقيقة البرامج.
اقرأ/ي أيضًا: أنجيلا ميركل.. هدف روسيا القادم
أتت الحملة الانتخابية للرئاسة الأمريكية عام 2016 لتكون ثاني أكبر حملة انتخابية تستخدم التكنولوجيا الرقمية في استهداف الناخبين الأمريكيين، بعد الحملة الانتخابية لأوباما عام 2008، ولأن التكنولوجيا الرقمية باتت جزءًا أصيلًا من العملية السياسية في الولايات المتحدة. ومن باب تسهيل المشاركة في العملية السياسة إجرائيًا، ولكونها تقوم على ما يعرف بالقيم الديمقراطية الأمريكية، من التعديل الأول دستوريًا، المتمثلة بحرية الإنترنت والحق في التعبير، وكذلك الحق في الانتخاب، فإن الطريق قد فُتحت لروسيا للوصول للناخب الأمريكي من خلال منصات التواصل الاجتماعي الرقمية التفاعلية، ما يضع الولايات المتحدة في تحدٍ مستمر لحماية فضائها الرقمي من الاختراق الروسي وقرصنته، بما يخدم المصالح العليا للكرملين وتوسيع نفوذ الرئيس فلاديمير بوتين.
في جامعة ستاند فورد، حيث انطلق واد السيليكون الذي يضم كبريات الشركات العاملة في العالم الرقمي، ومنها شركة فيسبوك، اعتبرت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة ومرشحة الحزب الديمقراطي السابقة للرئاسة، هيلاري كلينتون، في محاضرة لها بعنوان "التكنولوجيا الرقمية، الدبلوماسية، والقيم الديمقراطية"، يوم 17 تشرين الثاني/ نوفمبر، أن التدخل الروسي في الحملة الانتخابية واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي لضرب جوهر الديمقراطية الأمريكية وتعميق الخلافات السياسية الداخلية، لتحقيق أهدافها الدبلوماسية، مستغلة الجانب الأسوأ لممارسة "الدبلوماسية الرقمية"، يعتبر بمثابة "نوع جديد من الحرب الباردة"، بدأتها روسيا تجاه الولايات المتحدة.
سيشكل مفهوم "الحرب الباردة الجديدة" حقلًا معرفيًا جديدًا في مستقبل العلاقات الدولية
من اللافت في هذا السياق ملاحظة أن هذا الخطاب الجديد على كلينتون آنذاك، أتى رفقة نشر موقع ويكيليكس لمئات رسائل البريد الإلكتروني التي تثبت تورط كلينتون في عديد من الملفات أثناء توزيرها على رأس الدبلوماسية الأمريكية. أقلها استخدامها لبريد إلكتروني شخصي غير مؤمن بالبروتوكولات الحكومية فيما يخص أعمال الحكومة. كما أوضحت ويكيليكس لاحقًا أن المسألة هدفت لكشف حقائق عن سيرة كلينتون أملًا في أن تصب في صالح المرشح الديمقراطي المنافس بيرني ساندرز، إلا أن أكبر المستفيدين كان الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب رفقة الحملة الروسية، الذي لم يعتق ويكيليكس ولا بيرني ساندرز من هجماته أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا: المخابرات الأمريكية: بوتين أطلق حملة لدعم ترامب
يأتي المفهوم الجديد الذي أطلقته كلينتون في محاضرتها، أي "الحرب الباردة الجديدة"، في ظل سعي الولايات المتحدة للاستغلال الأمثل لوسائل التواصل الاجتماعي للترويج لقيمها وسياساتها الخارجية، بالإضافة إلى إمكانية التأثير في شعوب الدول الأخرى ومواطنيها، من خلال الاستثمار الأمثل للدبلوماسية الرقمية، عبر مد جسور بين أمريكا وشعوب الدول المختلفة، لكن المفهوم يتجاوز حدود الصراع المحتدم في العالم الرقمي بين الولايات المتحدة، ليشمل الصراع الروسي الأوروبي، وخاصة تنامي النفوذ الروسي في أوروبا الغربية، حيث تشير الدلائل إلى تدخل روسيا في التلاعب باستفتاء انفصال إقليم كتالونيا عن إسبانيا، ما يعني أن الطموح الروسي لا يقتصر على التدخل في أمريكا فقط، كما تشير المعطيات إلى أن روسيا تدخلت في التأثير على انتخابات الرئاسة الفرنسية، بالإضافة إلى اختراقها لعدد من هواتف أعضاء في الحكومة والبرلمان الألماني.
سيكون التدخل الروسي مؤثرًا ومؤلمًا للغرب كون روسيا تسعى لاستباحة الساحة الأمريكية والأوروبية، عبر استغلال الفضاء الشعبي، لاسيما المساحة الافتراضية التي يتحرك فيها الجمهور الموجود على منصات التواصل الاجتماعي، لتحقيق أهدافها السياسية والدبلوماسية. وفي هذه المرحلة التاريخية المهمة، سيشكل مفهوم "الحرب الباردة الجديدة" حقلًا معرفيًا جديدًا في مستقبل العلاقات الدولية وسيفتح الباب على مصراعيه للدخول في مرحلة جديدة من المنافسة والصراع الدوليين في الفضاء الرقمي، الأمر الذي يتطلب من كل لاعب دولي في الفضاء الرقمي تحديد استراتيجيته وحماية فضائه الرقمي من الاختراق والتلاعب به، وسيفتح التساؤلات حول مستقبل الدبلوماسية الرقمية وما مدى استخدامها بطرق غير مسؤولة للتأثير في زعزعة الأنظمة السياسية على مستوى العالم كله.
اقرأ/ي أيضًا:
هوس ابن زايد.. أبوظبي تستعين بضباط "CIA" لبناء إمبراطورية جاسوسية (2-2)