"دول ألف متر قماش، المفروض نعملهم يفط للدعاية الانتخابية، خدوهم، إنتوا أولى".
جاءت هذه الجملة على لسان بخيت، الشخصية الرئيسية في فيلم "الجردل والكنكة"، الجزء الثاني من ثلاثية "بخيت وعديلة" الذي عُرض لأول مرة عام 1997.
كان بخيت (جسّد دوره عادل إمام) الذي قرر خوض الانتخابات البرلمانية، يتحدث في هذا المشهد إلى أهالي منطقة عشوائية فقيرة مهمّشة، يعاني أهلها الجوع والفقر والمرض والجهل.
يروي الفيلم، في إطار كوميدي، قصة محاولة بخيت وعديلة شراء شقة للزواج، لكنهم لم يجدوا شققًا رخيصة الثمن يستطيعون تحمّل أسعارها، ثم اكتشفوا أن أعضاء البرلمان يحصلون على شقة وسيارة، فقرروا حينها خوض الانتخابات البرلمانية، ونالوا الدعم من بعض رجال الأعمال الفاسدين الذين يحاربون مرشحين آخرين يعارضون مصالحهم.
في اللحظة التي تعاني فيها البلاد من أزمة اقتصادية طاحنة، نرى بذخًا غير مبرر في صور ولافتات مرشحي الانتخابات الرئاسية المحسومة سلفًا
بعد 10 سنوات من إنتاج "الجردل والكنكة"، عُرض فيلم "حين ميسرة" الذي تضمّن مشهدًا مشابهًا لأطفال في منطقة عشوائية فقيرة يقطعون لافتة انتخابية معلّقة، فيهرع بطل الفيلم الممثل عمرو عبد الجليل تجاههم وينتزع منهم اللافتة قائلًا: "اليافطة دي من أول ما اتعلّقت، وأنا قايل هاخدها بعد ما الانتخابات تخلص.. هات يا بن الحرامية أنت وهو"، ثم اتجه إلى الخيّاط الموجود في الحارة وقال له: "خُد يا عم رزق.. فصّل لي دي لباسين".
نستعيد ما سبق ونحن على أعتاب انتخابات رئاسية محسومة سلفًا، رغم وجود ثلاثة مرشحين إلى جانب السيسي. ومع ذلك، تنتشر الصور واللوحات الإعلانية والدعائية بكثافة في الشوارع والميادين لمرشحي الانتخابات. أو، بمعنى أوضح، صور المرشح الفائز سلفًا: "الرئيس عبد الفتاح السيسي".
موسم الانتخابات، سواء الرئاسية أو البرلمانية، موسم للتجارة ومكسب لتجّار القماش والدهانات والخطاطين، وأيضًا للفقراء الذين يُدفع لهم مقابل حضور المؤتمرات الدعائية أو المشي والهتاف في مسيرات مؤيدة للمرشح الفلاني، ثم يسرقون قماش الدعاية كي يصنعوا منه الملابس بعد انقضاء الموسم.
لم يعد القماش مطلوبًا في الدعاية كما كان من قبل، فهو مكلّف وغير عملي ويحتاج إلى خطاط جيد للكتابة اليدوية على كل لافتة، وهذا الخطاط بحاجة إلى شراء دهانات وفُرَش للرسم والكتابة، ومجهود كبير لإنهاء أكبر عدد من اللافتات في وقت قياسي، إلى جانب أجرة يده.
وخلال السنوات الأخيرة، وبحكم الزمن والتطور التكنولوجي، تحولت الدعاية الانتخابية تدريجيًا إلى طباعة اللافتات على لوحات بلاستيكية، أو تأجير لوحات رقمية مضيئة، لكونها عملية أكثر وأسهل تنفيذًا وأوسع انتشارًا وتأثيرًا، وأقل تكلفة لناحية الوقت والمجهود والمال. فنَدَر وجود الخطاطين، وفقد الفقراء موسمًا مهمًا للحصول على القماش المجاني.
وفي اللحظة التي تعاني فيها البلاد من أزمة اقتصادية طاحنة، نرى بذخًا غير مبرر في مشاهد اللافتات الإعلانية المنتشرة في كل الشوارع وعلى جانبي الطرق والكباري والمحاور المرورية بشكل يدفع إلى التساؤل: ألم يكن من الأولى توجيه تلك الأموال إلى قطاعات الصحة أو التعليم أو البنية التحتية، أو القضاء على الفقر والتشرد، عوضًا عن دعاية لا طائل من ورائها؟ فالجميع يعلم النتيجة النهائية مسبقًا، ولكن من يرعى تلك اللوحات الإعلانية ومن ينفق عليها؟
إن مصادر تمويل الدعاية الانتخابية متعددة، فمنها ما يرعاه "حزب مستقبل وطن"، الذراع السياسي للنظام الحالي والبديل المضمر لـ"الحزب الوطني الديمقراطي" سابقًا. ومنها ما ترعاه أحزاب الموالاة الداعمة للنظام الحاكم والمقرّبة من الأجهزة الأمنية، وبتنسيق أمني شبه كلي. ومنها ما يأتي تقربًا وتملقًا من رجال الأعمال وملّاك الشركات والمصانع والمطاعم والمحال وأصحاب المصالح، بغرض تقديم فروض الولاء وتأمين تجاراتهم. ناهيك عن تلك التي بأوامر مباشرة للمواطنين من ضباط الأمن المسؤولين، كل حسب المنطقة المسؤول عنها.
في مدينتنا مثلًا، يجبرون العائلات الكبرى على تعليق اللافتات المؤيدة للرئيس في مناطق سكن العائلة كي يتقوا شر ضباط الأمن: "من أجل استكمال مسيرة التنمية والإصلاح، عائلة فلان الفلاني تؤيد الرئيس السيسي لفترة رئاسية جديدة".
وفي بعض الأحيان، يجبرونهم على التبرع للدعاية الانتخابية، وهذا التبرع يأتي بأشكال مختلفة: إما مبالغ مالية لها حد أدنى، أو عدد معين من الكراتين التي تحوي منتجات غذائية وتموينية ويُطبع عليها صورة الرئيس ويُجرى توزيعها على المحتاجين من أهالي المنطقة.
لا داع لكل هذه البهرجة الانتخابية، ولا لكل هذا النفاق، ولا حاجة للافتة إعلانية واحدة. وإن كان لا بد من الدعاية الانتخابية، فرجاءً أن تفكروا في العودة مجددًا لاستخدام القماش، على الأقل كي يجد الخطاطون رزقهم، ويجد الفقراء كسوتهم وما يقيهم برد الشتاء.