في كلِّ مكان شخصٌ يرفض أسلوب العيش السائد فيه، ومن دون أية خطط يختار هامش مجتمعه ومكانه، مُضطرًا لصنع ذلك الهامش أولًا، ومن ثمّ تمييزه عن المتن الاجتماعي الذي يعيش فيه الجميع سعداء وراضين بجهدٍ وكدٍّ لا يقطعهما غير انقطاع الحياة ثانيًا.
بشكلٍ من الأشكال، ذلك الشخص الذي يمثّل تمرّدًا معلنًا على المكان وأهله هو أكثر من يمثّل هذا المكان.
تكمن تراجيديا هؤلاء الذين لا يريدون من المجتمع شيئًا، لا لغته، ولا حمّاماته وغسّالاته، ولا حتى تواليتاته، في أنهم يريدون الحبّ
لهؤلاء مواهب خاصة في تلوين الحياة، وجعل ما يقولونه أو يفعلونه عجائب أو مباهج تتناقلها الألسنة. ولأجل المساهمة في رسم صورة واضحة لهم لا بدّ لنا من الانتباه في أول الأمر إلى غرابة أسمائهم التي يحقّقون بها المعنى العميق لفكرة التسمية، ولهذا لا يمكن لمن يسمع ذلك الاسم أن ينساه. ومع أننا لا تعرف في العموم هل اتخذوا هذه الأسماء أم أُعطيت لهم إلا أن هناك آليات محددة للتسمية، فمنهم من يتخذ اسم بطل قديم: الزير أو أبو زيد. أو اسم حيوان مفترس أو طائر كاسر: الصقر أو السبع، وفي بعض الحالات تسبق اسم الحيوان كلمة "أبو". أو تؤخذ الأسماء من أسماء أماكن أخرى: أبو حلب، الإسطنبوليّ، أو يصغر الاسم إلى حجم قرية منسية فيتسمّى هؤلاء بالدوماني والديراني والترشحاني.. إلخ. أمّا الرجل الذي في بالي فاسمه مستلّ من الأيام التي تصلح أن يتسمّى بها البشر. إنه أبو خميس.
اقرأ/ي أيضًا: في فلسفة الإنسان
يبرعون في اختلاق طرائق خاصة في تصميم الملابس، أو يركّزون براعتهم في طريقة لبسها، فمن يلبس من الثياب الاعتيادية يقوم بلمسةٍ ما تصبح بصمة، كأن يصرّ على أن يلبس معطفًا في الصيف والشتاء، أو ينتعل في قدميه شبشبًا، دون أن يتنازل ويمنح الأحذية شرف ملامسة جلد قدميه، حتى في أعتى أيام الثلج والجليد. ولأنهم يجافون أشياء مثل الاستحمام وغسل الثياب تغدو الألوان الداكنة، في الجلد والملبس على السواء، هويةً لا تخطئها عين، إضافة إلى هويات أخرى أكثر تنوعًا في عنفها لا تخطئها الأنوف. أمّا الرجل الذي في بالي فيضع على رأسه عقالًا فوق كوفية كانت بيضاء بلا شكّ في أيامها الأولى.
وهنا لا بد من ملاحظة ضرورية، يكتشفها بعضنا مع ازدياد عدد السنوات في رصيدنا، وهي أن ما نسميه نظافة ولباقة هي قيم اجتماعية أكثر مما هي حقائق طبيعية، ولهذا لن تتناسب مع هوى هؤلاء الذين يجلبون إلى حياتنا قوةَ البرية رائحةً ولونًا وفكرةً، لأنّ أعراف البراري لا تعتبر التراب والوحل والغبار والفضلات أوساخًا.
تكمن تراجيديا هؤلاء الذين لا يريدون من المجتمع إلا شيئًا واحدًا، ليس لغته، ولا حمّاماته وغسّالاته، ولا حتى تواليتاته؛ لا شيء سوى الحبّ، عاطفةً وجنسًا معًا، ولأجل هذا بالتحديد سيغدو الرفض الاجتماعي قاطعًا، فسوى أنه ما من أُسرة تقبل في أن تُزوّج بناتها لشخص منهم، فإن البنات أنفسهنّ لا يردنهم. ولنا أن نتخيّل مقدار الألم الذي يشعرونه، لا سيما حين يُدركون في أعماقهم أنهم سيموتون عازبِين ووحيدِين مهما حلموا بالشراكة العاطفية.
الملاحظة الأخرى، والضرورية أيضًا، أننا نتحدّث عن رجال، وذلك لأنّ عنف مجتمعاتنا الأشدّ قسوة سيتجلى في ألّا يسمح بظهور نساء في مثل هذه الهوامش، حتى لو كنّ في حالات من الاضطراب النفسي أو العقلي، بل لن يتورّع عن تحويل بيوتهن إلى سجون لهنّ كي لا يراهنّ أحد.
المجتمعات التي تضمّ أحدًا من هؤلاء محظوظة إلى حدّ فائق، ففي الوقت الذي تقضيه غيرها من المجتمعات في تناول أبطال القصص الشعبية الراسخة، سواء من القديمة أو الجديدة، تقدّم هذه الشخصية نفسها في إطار قابل للكسر كل مرة، لتظهر في إطار جديد بعدها، وتلك عبقرية الشخصية التي تجعل من أعضاء الجماعة الإنسانية مؤلفاتٍ ومؤلفين. فحيث تحدث القصة ويتم تناقلها بأكثر من طريقة، لا يختلف فيها غير البدايات والنهايات، فإنّ البطل يظلّ مفاجئًا في لا معقوله الذي يُغري خيال كل سامع في تجريب مهارته في القص حول هذا البطل، ولعل ميزة التأليف في هذا المقام أنها تبدأ بعد التأليف نفسه، عندما يكبر جمهور الحكاية مع كبر الحكاية، دون أن ينتبهوا أن الشخصية والقصة اللتين صنعتا خيال المجتمع بإمكانهما أن يصنعا منه مجتمعًا آخر ما دام أصبح ورشة للتفكير الجماعي!
الشخصية والقصة اللتان صنعتا خيال المجتمع بإمكانهما أن يصنعا منه مجتمعًا آخر ما دام أصبح ورشة للتفكير الجماعي!
أما الرجل الذي في بالي فلم يكتسب صفات كثيرة، إنما ظلّ تقريبًا كما هو، لكن لا معقوله لا يزال قادرًا على إكساب مجتمعه كل الصفات التي يحلم بها. وإن حدث التغيير الذي نتحدث عنه في يوم من الأيام ربما تكون للبطل الهامشي فيه حصة المؤسس!
اقرأ/ي أيضًا: الوجود الإنساني وسؤال: لماذا نحن هنا؟
هذه ليست قصة أبي خميس، ولا قصة عنه، بل هي مجرد مقدمة في شخصيته، وفي الشخصيات التي تشبهها. لنقل إنها محاولة في سرد قصة تشكُّلِه على هذا النحو الذي كان يعرف جيدًا أنه جالبٌ له النبذ، وموردٌ إياه مهالك التنمّر، ومع ذلك أصرّ على أن يعيش حياته بأسلوب غير بعيد عن كائنات الطبيعة، حاملًا في داخله روح غابة أو بحر، متعاملًا مع بيته (أو غرفته غالبًا) تعاملًا لا يختلف عن تعامل الطائر مع العش، دون أن يفكر في أن يصبح فتى الأدغال أو طرزان مع قدرته المؤكدة على تحقيق ذلك، لأنه يعرف بفطرته الصافية أن تلك حلولًا سهلة تناسب خيال القصص الرائجة، أما حله الأصعب فهو جلب البرية إلى الحارات، وإن كان ثمة فعل يجب أن يعيش من أجله الإنسان فهو ذلك ولا شيء سواه.
اقرأ/ي أيضًا: