ثمة حالة من التوجس والترقب والخوف والتربّص والقلق تمرّ على المواطنين المصريين العاديين، ليس لأسباب شخصية وإنما لخوفهم على بلادهم، فهم لا يملكون طائرات خاصة ليهربوا خارج البلاد إن حدث حادث ولا يملكون أموالًا في بنوك الخارج تؤمّن لهم طريق الخروج، لا يملكون سوى قوت يومهم وأمل في ربهم، ولكن قلقهم على مصر قادم من خبرتهم بها لأنهم عاشوا وتربّوا وكبروا في هذا البلد الذي يعيش عقودًا وعقودًا في حالة من الترقُّب والتربُّص والخوف المجهول.
إنه ترقُّب من النظام الحاكم وتربُّص من المعارضة غير المعتدلة وتخوُّف من المواطنين، فالأزمات الاقتصادية التي نعيشها كافية لأن يراجع النظام نفسه ويجمع معرضيه ويستمع إليهم ويوحّد صفوفه ويتنازل قليلًا عن كبريائه.
الوطنية لدى المسؤولين في مصر أن تجوع وتتحمّل أخطاء إدارتهم وتجاربهم الفاشلة، ثم تحمد الله، وتشكر الحكومة ورئيس الجمهورية
الغريب في الأمر أن النظام وأنصاره استنتجوا بعد تعويم الجنيه ورفع أسعار المحروقات، الذي ترتّب عليه زيادة ضخمة في أسعار السلع الأساسية، وعدم تشكُّل حركة احتجاجية شعبية ضده؛ أن خطوات "الإصلاح الاقتصادي" المزعوم تلقى تأييد المواطنين وأنه لا غضب ولا غليان ولا "سبّ دين" يوميًا يجتاح الشارع المصري حتى صارت شتيمة الحكومة والنظام روتينًا عاديًا لدى قطاعات واسعة من المصريين.
اقرأ/ي أيضًا: هل تناقض سياسة مصر الخارجية نفسها؟
النظام يعيش في وادٍ بعيدًا عن الشارع وهذا هو ما زاد تفاقم الأزمات التي يعيشها المواطن المصري، فعدم الاعتراف بالأزمة كارثة وعدم التراجع عن القرارات الخاطئة مصيبة وعدم الاستماع إلى وجهات النظر المعارضة استبداد وتكبُّر مصيره الفشل.
فالبلد يعيش الآن حالة من الفراغ السياسي والركود الاقتصادي والفشل الإداري وأغلب القرارات التي اتخذت خلال العامين الماضيين تسببت في تدهور الأوضاع الاقتصادية، فضلًا عن استغلال النظام كل وقت وحين نظرية المؤامرة وفزّاعة الإرهاب لتقنين وشرعنة السمت الترهيبي لجموع المواطنين، على اختلاف توجهاتهم، والتأكيد أننا أفضل حالًا من سوريا والعراق (رغم أن هذه الحجة الأخيرة لم تعد ذات وجاهة بعد تهجير مسيحيي شمال سيناء مؤخرًا).
وفي أثناء هذا كله، يجري ترديد ببغائي لكتالوج الاستبداد البدائي المتمحور حول وطنية النظام وضرورة مساندته في حروبه ضد أشباح "أهل الشرّ"، الذي يتخيّل الواحد من كثرة ما سمع بهم أنهم "لا شغلة ولا مشغلة" لهم سوى التنكيد على مصر والعمل على كسرها.
كل المسؤولين بدايةً من الرئيس لديهم مفهوم موحّد للوطنية، لا ينطبق إلا على المواطن الغلبان، فالوطنية لديهم أن تجوع وتتحمّل أخطاء إدارتهم وتجاربهم الفاشلة، ثم تحمد الله، وتشكر الحكومة ورئيس الجمهورية وتتبرّع لصندوق تحيا مصر بما لم يتبق معك.
هذا هو مفهوم الوطنية لدى المتشدّقين بها والآمنين على صكوكها كما يدعون. وآفة مصر وبلوتها الكبرى في حكم الفرد، مهما كان هذا الفرد وأيًا كانت مقوّماته. كل كارثة حلّت بمصر كانت آثرًا للحكم الفردي والاستئثار بالسلطة. وطالما أن الرئيس هو كلّ شيء، فبأي منطق يُلقي دعاة الوطنية ومحتكروها المسؤولية في وضعنا المزري حاليًا على أشخاص وكيانات غير ذلك الفرد الحاكم الملهم الزعيم الحكيم البطل المُخلِّص؟
اقرأ/ي أيضًا: مصر.. سياسة في المستطيل الأخضر
لم نسمع أن الرئيس طالب المعارضة بتقديم مقترحاتها حول النهوض بالاقتصاد، أو أنه قام بالاجتماع بهم للتشاور والتباحث في أحد الأمور المُسببة للجدل واللغظ والارتباك في الشارع المصري.
لم نسمع نهائيًا أن الرئيس السيسي وضع خطة مثلًا على مدى 3 أو 5 سنوات للنهوض بمنظومة التعليم المصري بجميع مراحله
لم نسمع عن إجراء نقاش مجتمعي حول "المشروعات القومية الكبرى" التي يعدنا الرئيس بأنها ستجعل مصر "قد الدنيا". كل ما نسمعه أن الرئيس قرّر تطبيق التقشف على الشعب، وأن الرئيس يطالب المواطنين بالصبر ويطالب "الشرفاء" منهم بالتبرع لصندوق تحيا مصر، وأن الرئيس "عايز الفكّة من الشعب"، وأن الرئيس يريد من المواطنين أن يصبَّحوا على مصر بجنيه.
في المقابل، لم نسمع نهائيًا أن الرئيس وضع خطة مثلًا على مدى 3 أو 5 سنوات للنهوض بمنظومة التعليم المصري بجميع مراحله. لم نسمع أن الرئيس وضع خطة متوسطة المدى للنهوض بمنظومة الصحة، رأفةً بالمواطن الغلبان الذي يموت فقرًا.
كل ما نسمع عنه إمّا تحمَّلوا وإما تبرًّعوا وإما ادفعوا ضرائب جديدة وإما "مش عايز حد يتكلّم في الموضوع ده تاني"، وعندما يسأل الواحد منا: لماذا؟ يأتي الردّ ليؤكد لك أننا أعلم منك ونفهم أحسن منك.
متى يأتي الرئيس ليحقق طموحات المواطنين في تعليم محترم ومنظومة صحية آدمية ونظام تقاضي عادل، بدلًا من ترديد شعارات رنّانة لا يفيد رجع صداها سوى تكريث الأمر الواقع؟ متى يتخلّى الرئيس عمّن حولة من جوقة المنافقين والمتملقين؟ متى يستمع إلى وجهات النظر المختلفة، ويعرف بأنه لا يعرف كل شيء؟
اقرأ/ي أيضًا:
السياسية الخارجية المصرية: الرقص مع الشيطان!
جلسة تاريخية لخيبتهم الثقيلة