في المجتمع حيث نشأت، أسمع دائمًا عن رابطة يعظِّمها الجميع، رابطة التعاون التكاتف المحبة، هذه الرابطة كنت أسمع بها كثيرًا، وأستشعرها أكثر، أحس بها حولي في كل مكان، أراها في وجه كل شخص أقابله حتى أولئك الذين لا أعرفهم وأقابلهم صدفة في الشارع.. المحلات التجارية.. وسائل المواصلات.. إلخ.
الناس الذين تجمعهم الرابطة المجتمعية ذاتها لهم نمط حياة واحد، ومهما اختلفت التفصيلات إلا أن التشكيل لا يتغيَّر
ولفترة ما كنت كالجميع أنظر لتلك الرابطة نظرة إيجابية، لم لا؟ ما دامت هذه الرابطة تعني أنك مهتم بكل إنسان داخل مجتمعك، تفرح لفرحه، وتشفق لحزنه، وحين يحتاج إليك تسرع لمد يد الحاجة إليه، وإن لم يقع شيء من ذلك، فتكفي ابتسامات المارة والسلامات المنشورة كالريح الطيبة في صباحات أهل السوق، وتكفيك اجتماعات أهل الحي في مساجدهم.. بيوتهم.. وفي مناسباتهم.
اقرأ/ أيضًا: حادثة أورلاندو ودعاية مكافحة الإرهاب المسلم
إلى هنا يبدو كل شيء مثاليًا ومميزًا، أفضل مائة مرة من تلك المجتمعات التي لا نفتأ نسمع عنها والتي يعيش أهلها شيئًا يسميه الجميع "تفككًا اجتماعيً" حيث لا يعرف الجار جاره، ولا يكترث الواحد إلا بمصلحة نفسه، المال والمصلحة هي الرابط الوحيد الذي يجمع بين أفراد تلك الجماعات، هكذا كنا نسمع، وهذه هي المقارنة التي قامت ورُسِّخت في أذهاننا. ولهذا أحببْنا تلك الرابطة، واعتبرناها آخر الأشياء الحسنة التي بقيت في مجتمعنا.
ولكن في مرحلة عمرية ما، متفاوتة بين شخص وآخر، حسب سير حياته وتقلُّب مشروعاته يبدأ شعوره تُجاه هذه الرابطة يتغيَّر، يبدأ يشعر أنها تربطه، تتحكَّم فيه، تسرق حريَّته وتسلبه إرادته، وأن لها عليه يدًا هي أقوى من كل سلطة وحكومة، فقوانينها أسرى من قوانين الدستور، وشرطتها وعيونها أكثر عددًا وأوسع انتشارًا، إنهم في كل مكان، يحيطونك من كل جانب، في نفس ذاك الشارع وفي تلك المحال التجارية وفي المواصلات العامة، أما "أصحاب القرار والمتنفِّذون" فتجمعهم تلك المساجد والبيوت والمناسبات، هكذا يشعر حين ينتوي اتخاذ إجراء مهمٍّ في حياته، أو يتصرَّف بشكل مغاير لما اعتادوه، بل حتى لو تصرَّف بشكل طبيعي ولكنه يختلف عما في رؤوسهم حوله، وعما تخيلوه أن يكون، يطوِّق صدرَه الشعورُ بالضيق وبمسؤوليةٍ لا يفهم سببها تجاهَهم، يشعر أنه مضطر لأن يكون كما أرادوا له وإلا فهو خارج من تلك الرابطة أو متعالٍ عليها، وفي أمور أخرى أصغر بكثير يُمكن فقط أن يَجُرَّ الأمرُ عليه شيئًا من السخرية، النظرة المُستغرِبة والغيبة التي تنفجر عن يمينه وشماله والتي لا تلبث حتى تصل إليه آثارها ويبلغه علومها.
الناس الذين تجمعهم هذه الرابطة لهم نمط حياة واحد، ومهما اختلفت التفصيلات لكن الأصل يبقى واحدًا، والتشكيل لا يتغيَّر، وهذا الأساس مهما أصبح باليًا ومملًا وأحيانًا صعبًا إلا أن الخروج منه أو العبث به يعني تمرُّدًا. فالناس من أبناء هذه الرابطة لهم دورة حياة واحدة ككل أصناف الكائنات الحية، كأن تولد ولادة طبيعيةً وأن تلبث في رحم أمك تسعة أشهر، فإن حصل وولدت ولادة قيصيرة مثلًا أو لبثت أقل من تسعة أشهر، فلا بد أن يتناقل أبناء الرابطة الأمر لمدة شهور ويتحدَّثوا به كأنه ظاهرة كونية فريدة، وربما يعزونه إلى خطأ في سلوك الأم أو تقصير، وربما مرضٍ وراثيٍّ خطير متجذِّر في نسلها، فإن مرَّت الولادة فيجب ألا تكون فترة الرضاعة طويلةً ولا قصيرة، ففي الحالتين لن تسلم من حديث أبناء الرابطة، ثم عليك أن تتعلم المشي قبل أن تبلغ السنة الأولى ولو على الأقل "على الداير" وأن تنطق بعض الكلمات المفهومة، وأن تضحك وتلعب وتظهر علاماتِ نبوغ وذكاء وتفوق تختلف -كما تزعم والدتُك وينكر الجميع- عن كل الأطفال في سنِّك.
الكل يشكو كلام الناس، وكيف أنه مربوط بغيره، ثم تنظر إليه فتراه يُمارس هذا السلوك على سواه
ثم تكبر شيئًا وشيئًا وهذه السنوات أرى ربطها بدورة حياة والديك أفضل من ربطها بدورة حياتك أنت، فأنت لا تزال غير واعٍ تمامًا، ومسؤوليةُ ما يحدث منك أو عليك تحمِّلها الرابط لوالديك، وأحيانًا لجدَّتيك.
اقرأ/ أيضًا: لا تضغط على الرابط التالي
لكن ما لا بد أن يُربَط بدورة حياتك هي السنة التي تدخل فيها المدرسة وتبدأ بتعلُّم الكتابة والقراءة، هنا تضع قدمك في أول الطريق، أو لنقل تلصقها على الطريق ثم تعجز أو تضعف عن تغيير مسارها، هذه الطريق التي كلما خضت فيها وجدتها تضيق أكثر وأكثر، وتَتَحدَّدُ بشكل أقوى مع كل خطوة.
فلو أردتَ مثلًا أن تُجاري الرابطة وأن تخضع لقانونها وتُشبِع رغباتِها في ما تطلب منك دائمًا وقرَّرتَ أن تتفوَّق في دراستك المدرسية، في البداية ستحظى بتقدير الرابطة واحترامِها، وستراك واحدًا من أنبل أبنائها، لكن ستكتشف فيما بعد أنك وقعتَ في فخ وخيم، وسقطتَ في مصيدة الرابطة الأبدية، إذ حين تُسمى بالمتفوِّق والمجتهد لن تصبح محلَّ تقديرٍ فحسب، بل معقدَ آمال وطموحات، من أقرب الناس وأبعدهم، وهذا يعني مزيدًا من القيود على حركتك، تصرفاتك، اهتماماتك، بل حتى اختياراتك المستقبلية، كالمسار الجامعي الذي ستختاره، هنا ستكتشف أنك مجبر على مجاراة الرابطة في كل تلك الجزئيات لأجلِ أنَّك انجرَرْتَ خلفها مرة وقرَّرْتَ أن تتفوق، فتبدأ بتهذيب ألفاظك تهذيبًا مبالغًا فيه، تنتقي ملابسك التي قد لا تناسب سنك، تتحدث بوقار مُتكلَّف، ثم في النهاية تختار واحدًا من المسارات المحدودة جدًا التي تتقبَّلها الرابطة وتنظر إليها باحترام، وأي محاولة منك في أي مرحلة للتغيير أو عدم الانصياع، ستكون أصعب مائة مرة من لو أنك فكرت مليًا في البداية، ولم تكن من المتفوقين.
وقبل الخوض في حرية المعتقد والتعبير، لا بد من المرور سريعًا على حرية اختيار المساق الجامعي، وسن الزواج
شبيه بالأمر أيضًا أن تتديَّن في رابطة تميل للتديُّن وهنا سواء كان ذلك نابعًا من إيمان ما في داخلك، أو رغبةً في مجاراة الرابطة والانصياع لها، فإنك تقع في متاهة غير منتهية من الالتزامات والقيود. وهذان مثالان بسيطان جدًا لما تفعله الرابطة بمن هم -حسب معاييرها- خيرةُ أبنائها والذين نالوا رضاها في وقتٍ ما، فكيف تتخيَّل فعلها بمن أدار إليها ظهره بالكلية، ولم يحاول قط كسب رضاها؟
والمستفزُّ المثير للحنق في هذا الخصوص؛ أن الناس في هذه المسألة لهم رأي واحد، ووجهة نظر واحدة، فكلهم يشكون كلام الناس، وضغطَهم وحشريَّتَهم، وكيف أنه مربوط بغيره، منصاع لأمره، ثم تنظر إليه فتراه يُمارس هذا السلوك على من دونه، فهو بهذا يؤذي غيره بما يشكو إيذاء الناس له به! وربما يعتبر هذا ردة فعل لما يُمارس عليه، فهو -إذ مُنع ما يحبُّ- يفعل المستحيل لئلا يحظى غيره بما حُرم هو منه، وهذا أكثر ما يساهم في تعميق أثر الرابطة وبسط نفوذها.
في النهاية؛ فإن كل حديث عن تقبل الاختلاف في الدين والآراء السياسية، يجب أن يسبقه الحديث عن أولئك الممنوعين من الاختلاف في أبسط السلوكيات، وأهون الاختيارات، وقبل الخوض في حرية المعتقد والتعبير، لا بد من المرور سريعًا بحرية اختيار المساق الجامعي، وسن الزواج، وعدد الأبناء، وطراز اللبس.
اقرأ/ أيضًا: