تقف الرواية السورية اليوم بين زمنين؛ حاضرٍ مرير يتطلّب الكتابة والتوثيق، وماضٍ يُغري بالعودة إليه، باعتباره أرضًا خصبة لقصصٍ تتطلّب إعادة الحفر والتنقيب، كعتبة أولى لإعادة كتابة هذا الزمن مجدّدًا. وضمن هذه المسافة الفاصلة بين هذين الزمنين، يُمكن القول إنّ الرواية خرجت عن مسارٍ مُدجّجٍ بالخوف، وسلكت آخر مفروشًا بالألغام الموزّعة بين حواجز نُصبت سريعًا، وخنادق حُفرت على عجل ومتاريس تروي سيرة بلادٍ وشعبٍ منكوبَين. بهذا المعنى، لا يُمكن التعامل مع هذا التحوّل الكبير باعتباره حدثًا متوقَّعًا، وكذلك ما حلّ بالبلاد بأكملها، وإن كان بعض ما كُتب داخل جمهورية الخوف يُلمّح بأنّ هناك انفجارًا قادمًا.
تقف الرواية السورية اليوم بين زمنين؛ حاضرٍ مرير يتطلّب الكتابة والتوثيق، وماضٍ يُغري بالعودة إليه
عمومًا، لم يكن الأدب في الحالة أو الواقع السوريّ كافيًا لتأكيدٍ أمرٍ كهذا، أو نفيه أيضًا. نتحدّث عن بلادٍ تُحكم بالحديد والنار، وتُدار بعقلٍ أمنيٍّ دكتاتوريٍّ يقدّم نموذجًا عربيًا خالصًا لمفهوم دولة الأخ الكبير الذي قدّمه الروائي جورج أورويل. هكذا، كان من الطبيعي أن تنشغل الرواية قبل تاريخ الانتفاضة عام 2011 بموضوع الدكتاتورية، والتحوّلات الاجتماعية والسياسية التي جاءت كجزءٍ من قيامها. الأعمال المكتوبة قبل التاريخ المذكور أعلاه، دخلت حقل الاشتباك مع النظام وخطابه ودكتاتوريته بكلّ معانيها ومؤسّساتها؛ كانتهاك حقوق الإنسان، والقمع الثقافي والسياسي الذي تُديره مؤسّساتٍ ثقافية واجتماعية ودينية، ومن خلفها مؤسّساتٍ عسكرية وأمنية تحصّن النظام القائم.
اقرأ/ي أيضًا: فواز حدّاد: أصبحت الرواية حياتي كلها
الصراع بين الإخوان المسلمين والنظام مطلع الثمانينيات، والزمن الذي أفرزه بعد حسم الأخير المعركة لصالحه، شغل الحصّة الأكبر من روايات تلك الحقبة. الكتّاب السوريين آنذاك اصطدموا مباشرةً بسؤال: كيف نروي ما حدث؟ فالأهم كان لا ماذا يروون، وإنّما كيف يفعلون ذلك؟ الإجابة عند البعض كانت في الذهاب نحو السخرية لمعالجة الواقع القائم. ومن داخل هذه السخرية الحادّة، تتناسل الأحداث والأفكار التي عكست صورة النظام آنذاك. فأنتجت هذه السخرية في رواية "موجز تاريخ الباشا الصغير" (رياض الريس، 1991) لفيصل خرتش دواءً يُشفي أمراض جميع الناس، ويمنحهم شعورًا بالاستكانة، بحيث لا يتذمّرون أو يحتّجون. ناهيك عن زرع محبّة الباشا (مُعادل الرئيس في العمل) في قلوبهم. بهذا النمط من الكتابة، تناول خليل الرز في "سلمون إرلندي" (دار الينابيع، 2004) أحداث مدينة حلب إبّان الصراع بين النظام والإخوان. المدينة الرافضة لحكم البعث، قُدّمت داخل العمل مدينة حرائق وموت واعتقالات وشوارع فارغة ودخان وخراب يخلّفه العسكر. وتمثّلت السخرية داخله بنجاة بطله من رصاص العسكر بفضل تنورة صديقته القصيرة، فهذا ليس لباس الإخوان.
توجّه البعض الآخر نحو كتابة مُختلفة كُليًّا. لا تزال مدينة حلب مسرحًا للأحداث، ولا تزال تلك الحقبة الدموية والدكتاتورية موضوعًا. ولكن من الممكن ألّا تكون السخرية ذات نفعٍ لمن يودّ الكلام عن الكراهية التي استفحلت بالمجتمع السوريّ بفعل ذلك الصراع وقمع النظام للأكثرية. ضمن هذا الإطار، دارت أحداث رواية خالد خليفة المعنونة بـ"مديح الكراهية" (دار أمسيا، 2006)، لتحكي لنا عن ذروة الشعور بالكراهية المتبادل بين العلويين؛ أقلية حاكمة. والسنّة، أكثرية محكومة من أقلية بغير عدلٍ. انتقلت الرواية بين حلب وحماة وتدمر وقرى الطائفة الأخرى، وكوّنت هذه الصورة عن الكراهية المستفحلة بفعل قمع النظام وخطاباته الطائفية.
"السوريون الأعداء" روايةً تُعالج فترة زمنية محدّدة من تاريخ سوريا الحديث، تمتدّ حدودها منذ مطلع الثمانينيات وحتّى قيام الثورة
فتحت الانتفاضة الشعبية مطلع عام 2011 الباب أخيرًا لكتابة أكثر حدّة لجهة التعامل مع النظام الدكتاتوريّ القائم، ترفع من درجات الاشتباك مع خطاباته، وتسمّي الأشياء بمسمياتها، دون خوفٍ أو تردّد. بذلك، أفرجت الثورة عن العديد من الأعمال الروائية بمشاغل واتّجاهاتٍ مختلفة. ويُمكن القول إنّ هذه الروايات انقسمت إلى قسمان؛ ذهب الأوّل نحو التوثيق أو التصوير، فلم يفلح في الجمع بين المتخيّل وأدوات الكتابة من جهة، والواقع من جهةٍ أخرى. والثاني فعل عكس ذلك تمامًا، حيث قدّم رواياتٍ حافظت على المسافة بين التوثيق والمتخيّل. والقسمان ذهبا نحو كتابة سيرة الدمار والخوف والحرب والقتل. بهذا الشكل، وجدت الرواية نفسها منشغلة بالحاضر والماضي معًا. الحاضر لرسم ملامح الماضي. والأخير لتبرير أو تفسير الحاضر. فإذا بالكتابة تتحوّل إلى صراعٍ مع الدكتاتورية والخوف والقمع الذي عانت منه الرواية السورية كما السوريون تمامًا.
اقرأ/ي أيضًا: تعرّف على 5 من أبرز الروايات السورية
ضمن روايات ما بعد المنعطف الكبير، كتب فواز حداد في "السوريون الأعداء" (رياض الريس، 2014) روايةً تُعالج فترة زمنية محدّدة من تاريخ سوريا الحديث، تمتدّ حدودها منذ مطلع الثمانينيات وحتّى قيام الثورة. الرواية التي أثارت حفيظة الموالين للنظام، ذهب البعض للتعامل معها باعتبارها وثيقة تاريخية تتحدّث عن مجزرة حماة، دون أن تقدّم جديدًا يُذكر. والواقع أنّ رواية فواز حداد لم تنهل من البئر نفسها كما قيل، بل ذهبت نحو زاوية مختلفة. فتناول صاحب "المترجم الخائن" لهذه الحادثة لم يكن من باب استعادتها فقط في خضمّ الثورة. وإنّما باعتبارها عتبة أولى لتغلغل النظام في المجتمع السوريّ بطريقة مخيفة بعد هزيمة الإخوان. يذهب حدّاد نحو الحديث عن عبوره المآزق المحلّية والإقليمية ليتفرّغ لفرض نفسه في كلّ مدينة وقرية، ويكّرس مفهوم القائد الخالد، من خلال احتلال تماثيله للشوارع والساحات، ودخوله المدارس والمناهج التعليمية، والمؤسّسات الدينية وخُطب يوم الجمعة داخل المساجد. يُقابل كلّ ذلك حملة اعتقالات كبيرة بهدف تصفية خصومه الصغار بعد أن هزم الخصم الأكبر، أي الإخوان. هكذا، كانت أحداث حماة عام 1982 قد أفرزت زمنًا آخر من القمع والقهر والذلّ والخوف.
هذا الخوف، أو نتائج الزمن الجديد الذي أفرزه تدمير النظام لمدينتي حماة وحلب وأجزاءً من إدلب، وضعته الكاتبة ديمة ونّوس بطلًا قائمًا بنفسه لروايتها "الخائفون" (دار الآداب، 2017). الروائية السورية اختارت أن تكتب عن الخوف تحديدًا. إنّها تسعى في عملها هذا لأن تقول ما لم يُقل عن الصراع الطويل بين السوريين والنظام من جهة، وأن تروي كذلك سيرة البلاد، من وجهة نظر الخائفين، من جهةٍ أخرى؛ أكثرية تخاف من أقلّيةٍ حاكمة تحتكر السلطة والقوّة. وأقلّية تخاف في المقابل من انفجار أكثرية مجرّدة من السلطة والقوّة. والطرفان يخافان من أن يصير الخوف عندهما شعورًا مزمنًا.
تناول خليل الرز في "سلمون إرلندي" أحداث مدينة حلب إبّان الصراع بين النظام والإخوان
ونّوس سلكت طريقًا يُمكن القول إنّه متفرّع من الطريق الذي سلكه غالبية الروائيين السوريين ممكن كتبوا عن بلادهم قبل الثورة، أو ممن فضّل الكتابة عنها بعدها. صاحبة "تفاصيل" انشغلت بالخوف دون غيره، وكتبت عنه باعتباره ورطةً حدث وأن تورّط السوريين بها دون علمهم، ثمّ ما لبثوا أن دفعوا ثمنها سريعًا. هذه الورطة، كما نقرأ داخل العمل، أفرزت زمنًا آخر، تحوّل فيه الخوف إلى عنصرٍ أمنيّ ملازمٍ لحياة السوريين. وخير رقيبٍ على تصرفاتهم، وأحلامهم وأفكارهم. إنّه العين التي تُراقب الأجهزة الأمنية، حصن النظام، البشر من خلالها. وأداتهم في بناء مجتمعٍ غير مستقرٍّ نفسيًا، ولا قدرة له على الاحتجاج أو التذمّر. انشغال ونّوس بالخوف ربّما نابع من إدراك الكاتبة السورية بأنّ النظام بدّل قواعد الاشتباك بينه وبين الشعب، وحوّل صراع السوريين ضدّه إلى صراعٍ آخر ضدّ الخوف. والأخير كان ينوب عن الأوّل بحرفية عالية.
اقرأ/ي أيضًا: مها حسن: لا أكتب سيرتي الشخصية في رواياتي
تقول بطلة الرواية المُحاطة بالخوف، وشخصياتٍ متورّطةٍ به، إنّ "انتظار الخوف أصعب من الخوف ذاته. السجن أسهل من الخوف. الخوف بحدّ ذاته أقلّ قساوة من الخوف منه". بعبارة كهذه نقلت الروائية السورية واقع السوريين. وأخبرتنا، بقصدٍ أو دون قصد، بأنّ الهدف من الثورة لم يكن فقط إسقاط النظام، أو البحث عن الخبز والحرية. بل كانت، في جزءٍ يسير منها، أقرب إلى فرصة لوقف انحدارهم، السوريين، نحو الجنون بفعل الخوف. لعّل هذا السبب تحديدًا، افتُتحت "الخائفون" داخل عيادة طبيبٍ نفسيّ.
- المقال مجتزأ من دراسة طويلة تركّز على الرواية السورية بعد وقبل الانتفاضة الشعبية عام 2011.
اقرأ/ي أيضًا: