من بين التعريفات الكثيرة للحكاية الشعبية يأتي تعريفها على أنّها: "حكاية يُصدِّقها الشعب بوصفها حقيقة، وهي تتطور مع العصور، وتتداول شفاهًا، كما أنّها تختص بالحوادث التاريخية الصرفة أو الأبطال الذين يصنعون التاريخ". وإنّ التعريف السابق للحكاية الشعبية يأتي ليقول بأنّ الحكاية الشعبية التي يتمّ تناقلها شفاهيًا على ألسنة الناس تَحمل في كثير من الأحيان شكل من أشكال القداسة، وتأتي تلك القداسة للحكاية الشعبية من الإجماع الشعبي حولها وحول تفاصيلها، من كونها لكثرة سريانها على ألسنة الناس باتت لديهم بمثابة حقيقة مطلقة، لا نقاش فيها ولا جدال، خصوصًا إذا كانت تدور حول بطل تاريخي معين، فالحكاية الشعبية التي تدور حول الأبطال التاريخيين تأتي غالبًا بقصد أسطرتهم، وإضفاء هالة من القداسة حولهم، وإنّ هذه الهالة تعمل على تصوير الأبطال التاريخيين بمظهر الكمال التام، بعيدًا عن صفاتهم الإنسانية الحقيقية، وما فيهم من صفات الضعف، والنقص، والقصور.
حاتم علي: "أعرف أن للتاريخ سلطة هائلة جدًا على الشخصية العربية تكاد أحيانًا أن تُشبه سلطة الدين بقوتها وسطوتها وتأثيرها الشديد"
إنّ سيرة الزير سالم هي سيرة حكائية شعبية عربية، وهي سيرة تمّ تناقلها على المستويات الشعبية العربية شفويًا لفترات تاريخية طويلة، إنّها سيرة جاءت تختصّ ببطل تاريخي معين هو الزير سالم، هذا الفارس والشاعر المغوار، قاهر قلوب العذارى، وزير النساء، الشاعر الفذّ، والفارس الذي لا يَقدر عليه أحد، تُبالغ السيرة الحكائية الشعبية في الإطراء على الزير، تَعرضه في صورة مثالية كاملة، فهو فيها الإنسان الكامل الذي تجتمع فيه صفات الفصاحة والبلاغة، والشجاعة والفروسية، والجاذبية والسحر القادران على استمالة قلوب أكثر النساء تمنُّعًا. تأتي السيرة الشعبية عن الزير لتُضفي عليه صفات القداسة وتصوّره في مظهر الإنسان السوبرمان، أو بمظهر الإنسان اللي "مفيهوش غلطة".
اقرأ/ي أيضًا: حاتم علي.. في ضرورة القراءة
في كتابه "الاستبداد المفرح - حوارات مع حاتم علي" يُورد الروائي والمخرج فجر يعقوب مجموعة من الحوارات التي دارت بينه وبين المُخرج حاتم علي حول مسلسل "الزير سالم" الذي أخرجه علي مُقتبَسًا عن السيرة الحكائية الشعبية، ويقول علي في إحدى تعقيباته على المسلسل الذي كتب نصّه وأعده الكاتب والشاعر ممدوح عدوان، يقول علي في تعقيب أولي حول السلطة التي تمنحها الحكاية الشعبية للشخصية العربية التي يتمّ تقديمها في أي مسلسل تاريخي بقوله: "أعرف أن للتاريخ سلطة هائلة جدًا على الشخصية العربية تكاد أحيانًا أن تُشبه سلطة الدين بقوتها وسطوتها وتأثيرها الشديد".
ثمّ ينتقل علي إلى الحديث عن شخصية الزير سالم في المسلسل الذي تولى هو مسؤولية إخراجه، يقول علي أنّه حاول من خلال هذا المسلسل تخليص هذه السيرة الحكائية الشعبية من كلّ الأوهام والخرافات والمبالغات، وأنّه حاول من خلال حلقات المسلسل إخراج البطل (الزير سالم) من عليائه، ووضع رجليه على الأرض، وتحويله إلى بشر.
ويُعقّب حاتم علي على محاولته تلك قائلًا: "قد شكّل هذا اختبارًا لا يُستهان به: كيفَ يُمكن مقاربة هذه السيرة تلفزيونيًا دون قطيعة كاملة مع السيرة الشفوية والمكتوبة؟".
وبالتدقيق في كلام حاتم علي السابق، يُمكن القول بأنّ المقاربة التلفزيونية التي أراد علي تقديم سيرة الزير سالم عبرها ومن خلالها هي مقاربة لا تَرمي إلى إحداث قطيعة مع السيرة الحكائية الشعبية بشكل كامل، إنّها تُريد أن تَقترب من التاريخ الحقيقي لتأخذ منه التفاصيل الحقيقية لشخصية الزير سالم، تُريد أن تفترق عن السيرة الحكائية الشعبية التي ترسّخت في أذهان الناس لفترات طويلة كما لو كانت الحقيقة الواحدة والوحيدة حول الزير سالم وشخصيته وصفاته، إنّها مقاربة كان علي حريصًا من خلالها على تقديم شخصية الزير سالم بعيدًا عن أجواء الأسطرة المطلقة في السيرة الحكائية الشعبية، حيثُ يظهر الزير في تلك المقاربة –في النهاية- رجلًا مكسورًا مهزومًا، يتخلى عن ابنته لمجموعة من قاطعي الطرق، وهي مقاربة تأتي لا لتؤسطر شخصية الزير بل لتؤنسه، ولتجعله أكثر اقترابًا من شخصيته الإنسانية الحقيقية، تلك الشخصية الموجودة في صفحات كتب تاريخية كثيرة تَروي حقيقتها وحقيقة ما فيها من ضعف وقصور وغيرها.
حاول حاتم علي من خلال مسلسل "الزير سالم" تخليص السيرة الحكائية الشعبية من كلّ الأوهام والخرافات والمبالغات التي علقت بها
لعلّ واحد من أبرز المشاهد التي وردت في مسلسل "الزير سالم" كان مشهد الزير بعد أنْ تحقّق له مطلب قتل جساس قاتل أخيه كليب، يظهر الزير بعد مقتل جساس في مظهر من يُعاني من فراغ وجودي نتيجة تحقّق هدفه من الحياة، وكأنّه كان يعيش لغرض الثأر ومن أجله، وكأنّ حرب الثأر (حرب البسوس) الذي قادها لفترة زمنية طويلة -تُقدرّها بعض المصادر التاريخية بـأربعين سنة- وكان حريصًا على إبقاء جذوة شرارتها مشتعلة ضدّ أبناء عمومته من بني بكر؛ وكأنّها سبب وجوده الوحيد، يظهر الزير في تلك الحالة وهو يُحادث ابنته هند ويقول: "أتطلَّع إلى الافق يا هند فأرى الأفق فارغًا، الدنيا فارغة، جساس لم يعد موجودًا، من يصدق هذا، تصوري دنيا من دون جساس؟".
اقرأ/ي أيضًا: شاهد عيان على حرب البسوس
يظهر الزير في تلك الحالة وكأنّه في مأزق إنساني وجودي، وكأنّه يبحث عن معنى وجوده بعد أن تحقّق له ثأره المرتجى، يظهر في صورته الإنسانية تلك كأنّما يغرسُ سكينًا في صورته الأسطورية، كأنّه يقول: هذا أنا بضعفي وخوري وقلقي الوجودي، هذا أنا أمشي بعيدًا عن سيرتي المثالية، فأبتعد عن الأسطرة وأقتربُ من حقيقتي/ إنسانيتي.
اقرأ/ي أيضًا: