مرًة أخرى، يعود طيف عباءة الشيخ المقتول شهاب الدين السهروردي ليحاصر فضاء الخلاص الروحي لما تبقى من أبناء حلب، الذين يسيرون خلف تحررهم من سطوة الموت المستبد. وإن كان الرواة اختلفوا على صورة مقتله، سنة 587هـ، بأمر من الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، فإن رواة معاصرين، لن يختلفوا على تنوع منهاج القتل المكرس، منذ أن قررت المدينة الخروج عن طاعة الاستبداد، عبر تاريخها الطويل، والسير بطريق الحرية المطلقة.
أعادت حلب في عام 2006، إحياء التراث الصوفي من جديد، عندما اختيرت عاصمةً للثقافة الإسلامية
أعادت حلب في عام 2006، إحياء التراث الصوفي من جديد، عندما اختيرت عاصمةً للثقافة الإسلامية، للمدينة مع أبوابها التسعة، وخاناتها التراثية، تاريخ طويل مليء بالصوفية، وتجلياتها التي ظهرت واضحة في موشحاتها وقدودها، كان لشيخ الكار عمر البطش، صاحب "يا قلبي مالك والغرام"، دور كبير في تطوير موسيقاها، ليصل بها أبعد من مستوى الموشح الأندلسي، بشهادة معظم نقاد الموسيقى الطربية العربية.
اقرأ/ي أيضًا: في حلب.. الأسد وأمريكا يتبادلان الأدوار
اللافت في هذه المدينة التي يرجع تاريخها إلى 5000 سنة، أنها لم تتخل عن الصوفية يومًا، يبدو ذلك واضحًا في استسلام من بقي تحت سماء المدينة، التي أصبحت ممرًا آمنًا لأداة القتل اليومي، منذ أن خرجت عن عباءة الحاكم. يظهر ذلك التسليم لقضاء الله وقدره، مجلجلًا على وجوه الناجين من حمم الصواريخ، والبراميل المحشوة بحقد الانتقام، لا يمكن وصف ما يحصل، لكن يمكن الاستماع بصمت يملؤه الخشوع، لذاك الصوت الخارج من أجهزة التلفاز مكبرًا، بكلمات ترتجف الأرض على وقعها "الله أكبر.. الله أكبر".
سيحفظ التاريخ جيدًا، أن يوم التاسع والعشرين من نيسان/أبريل لعام 2016، لم يذهب نصف سكان هذه المدينة للمساجد، ألغيت صلاة الظهر في هذا اليوم، خوفًا على ما تبقى من الموت، وفي هذا اليوم دمر الطيران ثلاثة مساجدٍ أيضًا، لأول مرةٍ منذ دخول الإسلام إليها لم تقم فيها صلاة الجمعة، يا لحجم الألم الذي يعصر قلوب دراويشها مؤذني المساجد الأحياء!
اقرأ/ي أيضًا: حلب.. مدينةُ الألم
قبل أن تحدث المقتلة الكبرى في المدينة، كان شبان وشابات المدينة، يجوبون الشوارع بأصواتهم على نغم الطرب الحلبي، يهتفون للخلاص من الاستبداد الحديث، ربما كان قدرها ألا يستمر هذا الحدث كثيرًا، لأنها كانت من أسرع المدن التي دخلت إليها فصائل المعارضة المسلحة، ما عجل في تصويب صواريخ الخوف تجاه أبنيتها التاريخية، ولا لوم على أحد في هذا الدخول، لأنه في النهاية كان سيحصل مثلما حصل مع باقي المدن السورية، التي حاولت أن تمنع عن نفسها الموت بأقسى ما استطاعت ذلك.
في 29 نيسان/أبريل لعام 2016، لم تقم صلاة الجمعة في حلب لأول مرة منذ دخول الإسلام إليها
قسم لا بأس به من الأجزاء التي سيطرت عليها قوى المعارضة السورية، يحمل في زواياه تاريخًا صوفيًا، وبشكل عامٍ حلب عبر تاريخها كانت ميالة في طبعها للصوفية. كان ذلك واضحًا خلال الاحتفالات الدينية في شهر رمضان، هذا الشيء الذي استمر حتى ما قبل الهجوم الأخير عليها، لأن الأعراس لم تغب عنها، وفي هذه الأعراس، كان يشعر الجميع أنهم ممسكون جيدًا بالحياة، القدود الحلبية، والأناشيد الدينية، تطاير الأجساد والتحامها مع الهواء، الدوران في ذروة التجلي الإلهي للمدينة المعشوقة، تدور المولوية مع دوران المنشدين، وتدور الرؤوس طربًا وخشوعًا في آن واحد، على سبيل الخلاص، والوصول إلى ذروة التجلي الأخير لهم، مع زواريبهم الضيقة التي حفظوا عنها كامل تفاصيلهم، ليحملوها معهم أينما حط بهم ترحالهم المنفي، إن اضطرهم ذلك.
الباقون في الأزقة التي حفظها الدراويش، يعرفون تمامًا أن آلة الموت لن تتوقف عن الدوران، يعرفون ذلك منذ أن تسلم الملك الظاهر خطاب والده، الذي قال فيه عن السهروردي "لا بد من قتله ولا سبيل أن يطلق"، كما لو أن الطلب مرسل منذ أيام، لكنه يزيد على ذلك بتدمير ما تبقى من حجارة، وكأن لسان حال السكان الذين يرفعون أنظارهم نحو السماء، ليشاهدوا أين تستقر حمم الطائرات، يردد مع السهروردي "وكذا دماء العاشقين تباح".
اقرأ/ي أيضًا: