لم نأت إلى هذه البلاد سياحةً. لدى كل منا أسباب موجبة للخروج. الصواريخ والمدفعية لم تترك أسبابًا للبقاء. قوائم المطلوبين لم تترك أسبابًا للبقاء. القرف الطائفي الذي فاض على البلاد لم يترك أسبابًا، ثم جاءت الخاتمة على يد أصحاب الرايات السود فلم يتركوا لا أسبابًا ولا رغبة للبقاء.
حين يَنظر سوريون إلى أبناء جلدتهم ممن هم الآن في أوروبا ويعدونهم الفئة الناجية، فمن الإنصاف أن يتذكروا أن هذه النجاة ليست كاملة أولًا، وأن ما تحقّق منها جاء بعد أهوال كبيرة ثانيًا، فهم غامروا وركبوا البحر، وقطعوا طرقًا برية في بلاد مجهولة ملأى بقطاع الطرق والحيوانات المفترسة والمناخ العنيف. وفي رحلاتهم تلك مشوا مع أدلاء مسلحين ينتمون إلى مختلف أنواع المافيات، وكثيرون منهم جرت تصفيتهم في أمكنة لا يعرفها أحد. ولك طبعًا أن تتخيل الخطر الأكبر على النساء، ففوق البحر وقطاع الطرق والحيوانات والبرد والمرض والمهربين، هناك المتحرشون والمغتصبون، وكل ما سبق يعني أن هؤلاء وإن نجوا فهم يعانون مرارات لا يستطيع رؤيتها أحد.
سوريا الكيان السياسي الحاضر كيان بؤس وتوحش يجب أن يزول. إنها سوريا المعتقلات. سوريا اللصوص الكبار. سوريا المافيات التي تتوالد يوميًا. سوريا الجيش المتخصص بقتل شعبه
لدي صديق اجتهد في تعلم اللغة، وتعلم مهنة غير المهنة التي مارسها قبل، وبعد ألف صراع حصل على الجنسية لأول مرة في حياته بما أنه لاجئ فلسطيني، ورغم أنه الآن في وضع جيد، ولديه حياة آمنة، لكنه لا يستطيع الاستمتاع بأي تفصيل من تفاصيل الحياة. وأكبر مشاكله تتجلى في البحر. لهذا يريد أن يقضي إجازاته بين جدران المنزل، لأنه يكره البحر حتى لو مجرد صورة. هذا ما خرج به بعد غرقه قبل ثماني سنوات.
صديقة أخرى تخشى الغابة. لديها فائض من الأشجار الملتفة هنا وهناك، لكنها تفضّل التمشي في الأماكن المزدحمة، فالغابة بالنسبة لها ذكرى اغتصاب.
مع ذلك كله، لا توجد مشكلة لأهل الخارج مع أهل الداخل، فهم يدركون أن الهروب ليس جبنًا وأنّ البقاء ليس بطولة. بغض النظر عن التغيرات التي باتت تميّز كلًّا منهما.
مهما جرى الحديث عن سوريين مرتاحين في الخارج فالمقصود دومًا هو الفئة التي وصلت إلى أوروبا. لكنه كلام غير دقيق، فمن المعروف أن سوريي الدنمارك مهددون بالترحيل، وهم الآن في مخيمات معزولة، وكثير من سوريي الدول الأوروبية يعيشون كابوس أوراق الإقامة، التي باتت تُعطى لسنة واحدة فقط.
والأهم من ذلك أن هناك سوريين في تركيا تحت التهديد المستمر. إذ تهجم فئات من المتعصبين قوميًا وتدمر منازلهم وتؤذيهم. وتُشن ضدهم حملات ترويع إعلامية، وفوق هذا كله بات خيار الترحيل إلى الأراضي السورية المحررة معمولًا به. في اليونان يستطيع المعاتيه أن يحرقوا المخيم ويتركوا أهله في العراء.
في لبنان، تتبدّل الأحوال من حظر تجوال إلى الحملات الإعلامية التي لا تنقطع، وصولًا إلى حرق المخيمات والضرب والتعذيب. وفي الأردن، الناس في حالة من الهلع.
هذا هو حال سوريي الخارج. فقدوا أفرادًا من عائلاتهم في المعتقلات، أو في هجمات النظام وحلفائه، وخسروا المنازل وألفة المكان، ثم قذفوا إلى جحيم على شكل مخيمات بائسة، فوق كل ما فيها من عسف هي محاطة بالكارهين!
البقاء في بلاد الموت موت. الرحيل منها ليس موتًا تمامًا، إنما هو تقليل لنسبة الموت وحسب، وبهذا التصور؛ سوريو الخارج موتى أقل. هذا هو الفرق. فلا تتمنوا لهم موتًا كاملًا
وحين يأتي من يتحدث عن سوريا، وعن بقائه، علينا أن نعترف أن البقاء لم يكن هينًا. كثيرون بقوا بأعجوبة مثلما يمكن أن نقول عمن نجوا تمامًا. ولكن رغم ذلك كله، سوريا الكيان السياسي الحاضر كيان بؤس وتوحش يجب أن يزول. إنها سوريا المعتقلات. سوريا اللصوص الكبار. سوريا المافيات التي تتوالد يوميًا. سوريا الجيش المتخصص بقتل شعبه. سوريا التي تحترف جعل حياة كل من فيها مهددة.. هذه السوريا يجب أن تنتهي. أما سوريا المكان فشأن آخر. المكان تمثيل للعلاقة الحميمية الكبرى للكائن، إنسانًا أو حيوانًا أو شجرة. لكن لا يمكن بحال أن تجعلوا مديح المكان ضربًا من ضروب مديح الكيان. هذا حديث إفك.
البقاء في بلاد الموت موت. الرحيل منها ليس موتًا تمامًا، إنما هو تقليل لنسبة الموت وحسب، وبهذا التصور؛ سوريو الخارج موتى أقل. هذا هو الفرق. فلا تتمنوا لهم موتًا كاملًا.
