لا يهتمّ الباحثُ في السّياسة بدموع الثّكالى، ولا بآهات الموجوعين، ينتظرُ مَنْ يقتل أكثر حتّى يحلّل أكَثر. وكَذا الشّاعرُ ينتظر الحزنَ المرير حتَّى يبني عليه استعاراته الرّكيكة بعد أنْ شاهدَ طِفلةً تموت برصاص الحالمين لفجرٍ لا بياضَ فيه. أمّا الروائيّ فالسّردُ المطمور أهلك شخوصَهُ يبحثُ عن حدثٍ يُعطي مرارة لسردِه، وما أجملَ مرارة النّزوحِ لتكونَ سَرْدًا لحدث النِّسيان البعيد.
في السّودان قد يتعبُ العاشِقُ لذلك البلدِ الطيّبِ وهو يفكّر بمآلات الخروجِ من صِراعَ الجيوش، فمشهدُ خروجِ البعثاتِ والرّعايا الأجانبِ مِن السّودان كانَ مشهدًا محزنًا، سألتُ نفسي، لماذا تتركون السّودانَ وحيدًا؟ أما كانَ سلّةَ الغذاءِ العربِيّ؟ أم تلك السَّلةُ الّتي حدثتمونا عنها في المدارس سلّة فارغة لا أُكْلَ فيها إلّا فُتات الموت المرير؟
قال الشاعر رسول حمزاتوف: "السّاسَةُ يعوزُهم الحِسُّ المُرهَفْ ويفتقرونَ إلَى الخيالِ... أرادوا أن يقطعُوا قُرونَ الثَّورِ فالتهموه"
كلّ دولة عربيّة وأجنبيّة كانت تتباهى بإخراج رعاياها، والزول القادم من الخرطوم يزول بين ويلات الرّصاص، ووميض المدافع الغاضبة.
أكرهُ الجيوش؛ وما كُرهي لها إلّا لمرارةِ ما يفعلون، ففي بلادِي العربيّة لا يؤتمنُ الجيش إلّا لحراسة ذهبِ السُّلطة الأعمى، والآن السّودان بينَ ضربةِ رَصاص وهدأة موت، يتراجع نحو الموت السّريع بعد أن كان موته بطيء الكواكب. ولا تحتاج دول الحريّة مثل أمريكا أن تدكّ معاقلَ العلمِ والمعرفة بصواريخ مكلفةِ الثّمن مثل ما فعلت في قصفها لمصنع الشّفاء للأدويّة في الخرطوم عام 1998.
إن حصلت هُدنة في السّودان ننتظر الأمل بإنهاء النّزاع، وما أن تكونَ هدنة حتى يبتدئ صراع مرير لا تغاث فيه الثَّكلى، ولا يستريح الأنين، إنّ السّياسة وأوجاعَها هي من أهلكت السّودان، وأهلُ السياسة حالهم كحال أصحابِ الجيوش؛ فالعمليّة السياسيّة لم تكن في السّودان إلّا ألفاظ الموتِ الرّحيم، وأستعيرُ ما قالَهُ الشّاعِرُ رسول حمزاتوف: "السّاسَةُ يعوزُهم الحِسُّ المُرهَفْ ويفتقرونَ إلَى الخيالِ... أرادوا أن يقطعُوا قُرونَ الثَّورِ فالتهموه".
لا أريد الجمعَ بينَ أعناقِ المتنافراتِ، لكن، الموتُ واللّجوء والنّزوح سيكون لأهل السودان الدافئين، ذلك الزول الذي يرى الأرض وكأنَّها إله، يعشقها ويجعلها صوفيّته الأبديّة، لكنّ الأرضَ قِبْلةُ موت للإنسان العاشق لوطنه، والباحثِ عن آمالِهِ في أرْضه. وتلك الأرض هي قُبلة حياة للمتربّصين الحاقدين والّذين سيحصلون على السودان بأرضه المعطاءة دونما أيّ قتال سوى قتال شعوبه، والعبور عبر بوّابة مقبرة شعبه الحزين. وستكون السودان كما سوريا يدخلها المحتل بدماء أبنائه المتناحرين.
السّودان ذلك الجرح النّازِف في قلب الجميع، وإن أُسقطتْ وردة الرّوح من أجسادنا المثقلة بجراحات الأوطان، لكنّا نعشق السودانَ أرضَهُ وشعبَهُ، ونستذكرُ كلماتِ الشَّاعر محمد الفيتوري حين قال:
"لا أملِكُ إلّا وردةَ الرّوحْ
فيَا سيّدتِي الأرض اقْبليْنِي
حارسًا فِي ظِلِّ عينيك...
ومَسّتْ شفتاهُ
فَمَ معشوقتِهِ الأرض
وأحْنَى فوقَهَا رأسَ إله
وأطلّت من زوايا وجهِهِ القاسِي
ابتسامة!".