يواجه العالم برمته أزمة ارتفاع أسعار ونقل. وهذه أزمة لا يسهل على المرء تصنيفها وفق تصنيفات أكاديمية جاهزة، مع أنها تشبه في بعض جوانبها أزمات سابقة بطبيعة الحال. وبعيدًا عن التصنيف والتحديد، فإن الأزمة الراهنة التي لم ينج من اختبار مفاعيلها شعب من شعوب الأرض، تبدو، في حقيقتها، تمت إلى القوميات الغابرة بصلات وثيقة. ما يحدث حقًا أن شعوبًا بعينها تتعرض للنبذ اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا. وأن شعوبًا أخرى تضطر للإنفاق من جهدها ومالها من أجل نجاح هذا النبذ القومي، وحسن تأديته لمهامه. هذا النبذ القومي لا ينحصر بالشعوب التي تعلن عليها الحرب بشكل مباشر، بل يتعداه إلى الشعوب التي كانت حتى الأمس القريب تعيش على هامش العالم وأزماته. وقد يكون الأثر الذي سيتركه هذا النبذ على هذه الشعوب بالتحديد هو الأكثر كلفة والأقسى تبعات. وهي كلفة لا تضاهيها كلفة شعور الأوروبي الغربي أو الياباني بأن راتبه لم يعد يؤمن له نمط العيش الذي كان مؤمنًا له قبل الأزمة.
لن يجوع الشعب الألماني بسبب ارتفاع أسعار السلع. لكن هذا الارتفاع سيكون مدمرًا وستكون آثاره كارثية على الشعب البولوني
تستطيع ألمانيا أو فرنسا أو كندا أن تتحمل كلفة ارتفاع في أسعار المشتقات النفطية والغاز، وارتفاع مماثل في أسعار السلع والمنتجات الحيوية. لن يجوع الشعب الألماني بسبب ارتفاع أسعار هذه السلع. لكن هذا الارتفاع سيكون مدمرًا وستكون آثاره كارثية على الشعب البولوني. وقد يجد الأمريكي بديلًا عن المنتجات الزراعية المكسيكية بأسعار أعلى قليلًا أو كثيرًا، لكن الشعب المكسيكي سيجد نفسه غير قادر على شراء منتجاته بسبب هذه الأزمة. الفارق المعبر بين مصائر شعوب هذه الدول يكمن في هذه المعادلة بالضبط. ترتفع الأسعار في الدول المتقدمة، لكن قدرة هذه الدول، على تجنب أزمات معيشية خانقة، كبيرة وهوامش مناورتها واسعة. فهي قادرة على تشجيع الإنتاج المحلي حين تشتعل أكلاف النقل من الدول الأخرى عبر البحار، وهي قادرة من جهة ثانية بسبب ارتفاع الأسعار وأكلاف النقل أن تحقق أرباحًا مجزية من بيع المنتجات المحلية، ومن تشغيل عدد أكبر من مواطنيها في إنتاجها لتغطية السوق المحلية أولًا والتصدير إن أمكن. في حين أن الإنتاج في الدول الأفقر يعتمد اعتمادًا كاملًا على التصدير إلى الدول المتقدمة بأسعار متدنية. ذلك أن مهمة المكسيك في العقود الماضية لم تكن إطعام شعبها بل إطعام الشعوب المتقدمة، من دون تحميلها أكلاف إضافية. فالأمريكي يأكل ويلبس بأسعار صينية ومكسيكية، لكنه ينتج ويربح وفق آلية أمريكية. فيما المكسيكي أو الصيني ينتج ويأكل وفق أوضاع الصين أو المكسيك. والوفرة التي يحققها الشعب الأمريكي وينفق شطرًا منها على سلع كمالية، تتكون في جزء منها من هذا الفارق بين كلفة العيش المحتسبة على أساس كلفة العيش في المكسيك أو الصين، وطبيعة الأجور والأرباح المحتسبة بناء على كلفة العيش في نيويورك. ومن هذا الفارق الجوهري يتغذى مسار التفاوت بين الشعوب الذي يضع شعوبًا برمتها على حافة الفقر المدقع ويجعل شعوبًا أخرى قادرة على احتمال ضغط الأزمات.
ما تقدم يحاول الإيضاح بأن الحديث عن انتصارات تحققها دول تعاني من أزمات معيشية خانقة كما هي حال روسيا والصين، على دول تملك وفرة في الموارد المالية تمكنها من سرقة قوت أهل الأرض كلهم، لا يعدو عن كونه ضربًا من الخيال. أما المتحمسون لهذه الانتصارات في بعض بلادنا العربية، فربما يجدر بهم أن يتأملوا أوضاعهم مليًا، قبل أن تدخل دولهم وبلدانهم في العتم الكامل الناتج عن انعدام الموارد من كل نوع وصفة.