منذ خروج الأردنيين إلى الشوارع قبل أسابيع، محتجين على الأوضاع الاقتصادية التي صارت أسوأ من أي وقت مضى في البلاد، وعلى الفساد والمماطلة، كانت هناك تفسيرات جاهزة روجتها السلطات، وتبنتها وسائل إعلام بلا تدقيق. من الصحيح أن إجراءات صندوق النقد الدولي سببت تفاقمًًا في الأزمة الاقتصادية في البلاد، لكن هذا السبب كان بمثابة الحق الذي يراد به باطل، أو الذي يبرأ من خلاله جانب مؤسسة الحكم. ويكشف هذا التقرير المطول المترجم عن موقع ميديل إيست آي البريطاني، عمق هذه الأزمة، وارتباطها بأسباب أعم وأوسع.
مع استمرار الاحتجاجات التي شهدها الأردن، ألقت المملكة باللوم عن الأداء الاقتصادي الضعيف والإصلاحات الضريبية المثيرة للجدل، على إجراءات التقشف المفروضة من صندوق النقد الدولي وانخفاض المساعدات الأجنبية. إلا أنه في الحقيقة، وكما يقول المحللون، فقد كان الاقتصاد يُدار بشكل سيئ على مدى عقود، في حين لا تزال مبالغ كبيرة من الإنفاق الحكومي غير مُعلن عن مصادر إنفاقها.
عند إلقاء نظرة سريعة على الأرقام الرئيسية يُمكن معرفة السبب الذي أثار الاحتجاجات في الأردن
عند إلقاء نظرة سريعة على الأرقام الرئيسية يُمكن معرفة السبب الذي أثار الاحتجاجات بعد فرض ضريبة دخل جديدة ورفع الأسعار، واستمرار تلك الاحتجاجات لأكثر من أسبوع على الرغم من استقالة الحكومة ورئيس الوزراء. ووفقًا لبيانات إدارة الإحصاءات التي صدرت هذا الأسبوع، فقد بلغت معدلات البطالة أعلى مستوياتها منذ 25 عامًا، إذ ارتفعت من 18.4 %، إلى 24.1 % بين خريجي الجامعات، مع الأخذ بالاعتبار أن هذه التقديرات حذرة.
وعلاوة على ذلك، فقد تضاعف التضخم منذ عام 2006، مما زاد من تكلفة السلع اليومية. ففي نهاية شهر أيار/ مايو، أعلنت وحدة الاستخبارات الاقتصادية التابعة لمجموعة الإيكونوميست، أن عمّان أغلى مدينة في العالم العربي من حيث تكلفة المعيشة وتحتل المرتبة 28 ضمن التصنيف العالمي.
وصرحت النقابات العمالية أن الحد الأدنى للأجور البالغ 220 دينارًا (310 دولارًا أمريكيًا) في الشهر أقل بمقدار الثلث عن المبلغ المطلوب لكسب لقمة العيش. وقال الملك عبد الله للصحافة يوم الاثنين إن هناك "فشلًا وتباطئًا من جانب بعض المسؤولين فيما يتعلق بصنع القرار"، وإن "العالم لم يتحمل مسؤولياته بالكامل"، من خلال خفض المساعدات على الرغم من أن المملكة تستضيف ما يقرب من مليون لاجئ سوري.
اقرأ/ي أيضًا: #إضراب_الأردن.. حراك شعبي واسع احتجاجًا على قانون ضريبة الدخل
وأقر الملك عبدالله أيضًا أن الإصلاحات الضريبية، وهي حالة صندوق النقد الدولي التي ظلت معلقة لسنوات، قد نُقلت بشكل سيء للشعب. ظلت دول الخليج المانح الرئيسي للأردن على مر السنين، لكنها قامت بتقليص التمويل، لا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة المجاورتين. ومع ذلك، يقول الخبراء إن الأمر الذي أثر على اقتصاد الأردن أكثر تعقيدًا بعض الشيء.
وقال بيت مور، الأستاذ المساعد ومدير الدراسات العليا في جامعة كيس ويسترن ريسرف بالولايات المتحدة: "لم تكن الأردن مجبرة على القيام بجميع السياسات التي اتخذتها. صحيحٌ أنهم يعيشون في منطقة قاسية ويستضيفون الكثير من اللاجئين السوريين، ولكن رغم ذلك، كانت المشاكل موجودة قبل وصول اللاجئين أو تقليص المال الإماراتي". وأضاف قائلًا إن "جزءًا مهمًا من المسؤولية يقع على كاهل النخبة السياسية الأردنية التي قد أوقعت نفسها بنفسها".
السبب والنتيجة المربكان
ووفقًا لما ذكرته شركة الخدمات المالية ستاندرد آند بورز، فقد انخفضت قيمة المساعدات المقدمة للأردن فعلًا. وكذلك المنح الأجنبية، بما يعادل 2.5 % من إجمالي الناتج المحلي، وبنسبة 15 % بشكل سنوي في عام 2017.
اضطرت البلاد إبان ذلك إلى الاستعانة بأسواق المال الدولية لتمويل الديون، التي ارتفعت من 67.1 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010، إلى 95.9 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017، وذلك وفقًا لتصنيف كابيتال انتليجنس. وقد ارتفعت نسبة الاقتراض الدولي من 3% من دين الحكومة المركزية في عام 2012، إلى 21.9% في عام 2017.
لكن هذه المشاكل ليست حديثة العهد، كما ليست مرتبطة جميعها بالمساعدة الأجنبية، حسبما قال مور، الذي يتابع موضحًا: "يحاول الديوان الملكي أن يجعل الأمر يبدو وكأنه نتيجة لضغط صندوق النقد الدولي، أو السعوديين والإماراتيين على الأردن، غير أن هذا يخلط بين السبب والنتيجة. ارتبط السبب بشكل أساسي بسياسات الديوان الملكي منذ الثمانينيات، حيث قام الملك الراحل حسين بتعزيز ضخم للقوات العسكرية. أما فيما يتعلق بنصيب الفرد، فقد قام النظام بشكل أساسي بتحويل الأموال تجاه الجيش بالإضافة إلى تعتيمه على الإنفاق المالي، وهو أحد الدوافع الرئيسية التي أدت إلى الأزمة الاجتماعية والاقتصادية".
إن الحد الأدنى للأجور في الأردن أقل بمقدار الثلث عن المبلغ المطلوب لكسب لقمة العيش
ووفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI، استأثر الجيش في عام 2017 بنسبة 15.8% من الإنفاق الحكومي و4.8% من إجمالي الناتج المحلي، وهي إحدى أعلى معدلات الإنفاق العسكري في المنطقة التي تحتوي بالفعل على بعض من أعلى معدلات الإنفاق العسكري في العالم. وفي حين يُخصّص للإنفاق العسكري مبلغ 1.87 مليار دولار سنويًّا بشكل رسميّ، تموّل الولايات المتحدة ما يقارب 350 مليون دولار منها سنويًّا، ولم يُكشف عن المبلغ الإجمالي الذي أنفقته كلٌّ من القوات المسلّحة، ودائرة المخابرات العامة GID، والديوان الملكي. ويتسم الإنفاق العسكري في الأردن بالسرية البالغة إلى حدّ أنَّه لا توجد وزارة دفاع في البلاد.
يقول الأردني زياد أبو الريش، وهو أستاذ لمادة تاريخ الشرق الأوسط في جامعة أوهايو، ومحرر مساعد في مجلة جدلية الإلكترونية، إنَّ غياب الشفافية هو ما صعّب تقبّل الأردنيّين لإجراءات التقشّف وزيادة الضرائب. ويضيف أبو الريش أن "اللجوء إلى الحجة التي تقول بأنَّ هناك عجزًا في الميزانية، وأنَّه عليك أن تقلّل من الإنفاق أو المدفوعات، تجعل الأمر يبدو أبسط مما هو عليه بالفعل. نحن لا نعرف في الحقيقة مفردات الميزانية، لذلك ليس بإمكاننا تحديد ما إذا كانت هذه التخفيضات في الميزانية ضرورية أم لا، لأننا لا نعرف سوى القليل عن النسب المخصصة لمختلف المؤسسات العسكرية والملكية، وكيفية استخدام ذلك المال. يجب أن أكون واضحًا: يئسنا -كمواطنين أردنيين- من مناقشة هذه الأمور، بل ويُعدّ ذلك أحيانًا جريمة".
ويتابع: "لذا فإن فكرة إنشاء شبكة الأمان، وزيادة معدلات البطالة والفقر في الوقت نفسه، وخفض القوة الشرائية، لا تبدو منطقية على الأقل فيما يتعلق بالشعب".
حزمة إصلاحات مختلطة
في الوقت الذي لا يزال فيه الإنفاق العسكري مرتفعًا، انخفض الإنفاق على المشكلات الاجتماعية الاقتصادية. كما انخفضت مصادر التمويل الحكومي بعد أن نفّذ الأردن مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية في أوائل القرن الواحد والعشرين للتماشي مع تعزيز التجارة الحرة والسياسات النيوليبرالية من قبل منظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي.
كانت الرسوم الجمركية واحدة من أكبر مصادر الدخل القومي، لكنّها خُفّضت بشكل كبير، وعلى الناحية الأخرى، أثر فرض سياسات الإعفاءات الضريبية لجذب الاستثمارات الأجنبية، كذلك على ميزانية الدولة. ويقول مور إنه "في حين يشتكي الأردن من خسارة الأموال السعودية والإماراتية، يمكنك أن ترى في سماء عمان أبراج بوابة الأردن (المشروع العقاري الراقي)، الذي موّلته الإمارات، وهو لا يدفع أيّ ضرائب، كما بنته عمالة غير أردنية".
وأشار أيضًا إلى مناطق التجارة الحرة التي أُنشئت في أوائل القرن الواحد والعشرين، المعفاة من الضرائب، والمناطق الصناعية المؤهلة التي تصنع سنويًّا ملابس بقيمة 1.3 مليار دولار، لكنّ ملاكها هم في الغالب من شركات جنوب شرق آسيا، وفي حين يعمل 56 ألف شخصٍ في هذا القطاع، يمثّل الأردنيّون نسبة 30% منهم فقط.
يضاف إلى ذلك وجود 800 ألف من العمال المهاجرين في البلد، تمثّل نسبتهم أقل بقليل من 10% من عدد السكان، ويفيد وجود هؤلاء المهاجرين أرباب العمل والشركات الصغيرة، بسبب ضعف أجورهم، لكنَّ وجودهم لا يقلّل من معدل البطالة، حسب قول طارق التل، وهو أردني يعمل أستاذًا للعلوم السياسيّة في الجامعة الأمريكية ببيروت. وأضاف التل قائلًا إنَّ القطاع المصرفي في البلاد تملكه المصالح السعودية التي تدير الدين العام، في الوقت الذي خُصخصت فيه كذلك صناعة الفوسفات، واحدة من أكبر القطاعات التي تدخل العملة الصعبة إلى البلاد، ما يحرم المملكة من مصدر دخل طويل الأمد.
معاقبة الطبقة الوسطى
تجدر الملاحظة بأنَّ هذه الاحتجاجات -خلافًا للاحتجاجات السابقة- ضمت النقابات المهنية في صفوفها الأمامية، كما شارك فيها أبناء الطبقة المتوسطة. يقول التل: "سيفرض قانون الضرائب الجديد على الناس في الأردن دفع مبلغ يتراوح من 1000 دينار "1410 دولار" إلى 1500 دينار "2100 دولار" شهريًّا، في حين لا تدفع طبقة رجال الأعمال أيّ ضرائب. توجد العديد من الثغرات والمشاكل التي يمكن حلّها، لكنّهم يعاقبون الطبقة الوسطى عوضًا عن ذلك، وهذا السبب في مشاركتها بالمظاهرات".
يكمن الغضب من الفساد والمحسوبية وسوء الإدارة المالية وراء دعوات المحتجّين لتجميد الإصلاحات الضريبية. يبين مور "أنَّ ادّعاء المحتجّين أنَّ الفساد سبب أساسي في المشكلة هو أمرٌ صحيح. هناك الكثير من المال الذي يدخل ويخرج من الأردن، سواءً كان ذلك رأس المال العراقي، أو مساعدات التنمية، أو الأموال الأمريكية، وكثيرٌ من هذه الأموال لا تفيد المواطن الأردني".
اقرأ/ي أيضًا: الأردن تحت لعنة صندوق النقد.. "الشعب عارف طريقه"
وصُنّفت الأردن في المرتبة الـ 59 بين 180 دولة في مؤشر الفساد لعام 2017 الذي أعلنت عنه منظمة الشفافية الدولية. وأضاف التل: "يعتقد الناس أنَّ هناك فسادًا منتشرًا، وأنَّ عائلة الملكة رانيا فاسدة".
ما لم يُقضَ على الفساد، وتصبح هناك شفافية أعلى في الميزانية، فإنَّ الضرائب المتزايدة -مهما كانت حاجة الدولة إليها من أجل ضبط الموازنة العامة- سيكون تقبّلها صعبًا.
وتقول ليات شيتريت، المستشارة لبرنامج النزاهة المالية في المركز العالمي للأمن التعاوني بعمان، إن "هناك شعورًا بسوء إدارة التمويل القادم إلى البلاد، ورغم ذلك فهم يفرضون ضرائب على أفقر الطبقات؟ هناك حاجة إلى وجود شفافية أكبر حول نظام الضرائب لأنه سوف يخفف من مخاوف الفساد، بالإضافة إلى مناقشة مصير الأموال التي ترد إلى الأردن".
وأضافت: "تتولى الحكومة الأردنية إدارة العلاقات مع الجهات المانحة، لكنّ العلاقات ليست منسقة كما يمكن أن تكون. تدور المخاوف حول عدم الوضوح بشأن أي البرامج يجري تنفيذها، وأنَّ الأموال الممنوحة قد تكون مزدوجة".
من المسؤول ؟
في الوقت الحالي، تفكر الحكومة الجديدة في مناورة لإبعاد اللوم عن النظام الملكي. يقول أبو الريش: "على مدار 25 عامًا، كانت تزعم كل حكومة مختلفة أنها ستصلح الاقتصاد، وبالتالي إذا كان لدينا أعلى نسبة بطالة خلال 25 عامًا، فذلك يعني أن هذه الإصلاحات قد فشلت فشلًا ذريعًا، فمن المسؤول عن ذلك؟".
صُنّفت الأردن في المرتبة الـ 59 بين 180 دولة في مؤشر الفساد لعام 2017 الذي أعلنت عنه منظمة الشفافية الدولية
وأردف مبينًا: "نحن بحاجة إلى الاعتراف بوجود نظام ملكي تركيزه منكب على السلطة السياسية، وحكومة تتغير بإرادة الملك. فالديوان الملكي هو من يقرر من يظل في الحكومة، وهو من عين "رئيس الوزراء" هاني الملقي وجماعته في الحكومة، وهو من أقالهم، والآن يقوم بتعيين حكومةٍ جديدة".
تُعد الحكومة الجديدة، الحكومة السابعة منذ تولي الملك عبد الله السلطة عام 1999، والثانية منذ أن حل الملك البرلمان في عام 2016. ومن المتوقع أن رئيس الوزراء الجديد، عمر رزاز، وهو خريج جامعة هارفارد ومسؤول كبير سابق في المصرف الدولي، سيتبع استراتيجية اقتصادية مماثلة للحكومات السابقة.
يقول رياض الخوري، مدير شؤون الشرق الأوسط في مؤسسة إدارة المخاطر السياسية GeoEconomica GmbH في عمان، إن بيت القصيد هو أن سبب معاناة الأردن من الديون هو الفساد وعدم الكفاءة. ويتابع: "هل سيحل رئيس الوزراء الجديد كل هذه المشاكل؟ كلا، سيقدم نفس الإجراءات السابقة"، مضيفًا أنه يعتقد "أن قانون ضريبة الدخل سيمر، ولكن بدلاً من أن يُقدَم ككتلة واحدة سيتم إنجازه على مراحل، ولن يجبر الشعب على تقبله".
اقرأ/ي أيضًا: