في لحظة من اللحظات اللافتة في مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" الذي تمّ عرضه في رمضان الفائت، حيث كان الطاغية فرات يؤسّس لترسيخ الخوف منه في نفوس جنده وأتباعه، الذين كانوا يُخططون لاستبعاده من منظومة السلطة بعد موت أبيه، نظرًا لحداثة سنه وقلة خبرته.
في ذلك المشهد، يظهر فرات وهو يستدعي كلمات ونصائح والدته له حول اللحظة المؤسّسة للخوف التي يجب عليه أن يصنعها بيده، ولا يدع حتى أقرب المقربين له (أخوه عاصي) يفعلها بدلًا منه، وذلك عبر إتباع أساليب القتل المباشر لمعارضه الأساسي والمرشّح للظفر بمنصب الرئيس عوضًا عنه، حيثُ تتلو والدته على مسامعه: "بإيدك، هاي اللحظة ما لازم ينفذها عاصي، لازم انت اللي اتدخل الرعب بقلوبن كلن، الصديق قبل العدو". وفعلًا، يبرز فرات في المشهد وهو ينصاع لكلام والدته، فيخرج مسدسه من جيبه في لحظة خاطفة، ويخرج منه رصاصة يوجهها مباشرة إلى رأس منافسه، الذي يسقط ويتهاوى أمامه وأمام الجند والأتباع الذين يتحلقون حوله مصدومين من هول المشهد وبشاعته.
لا ديانة إلا الخوف ممّا يصنعه الطغاة بأساليب القمع والتنكيل، ويستخدمون فيها الدمّ باعتباره شعيرة استفزازية، تُسفَك علنًا أمام الجماهير لتعلّمهم "كيفَ تُصنَع الطاعة"!
يَبدأ فرات في المشهد بعدها بترديد كلمات يستدعي عبرها التأييد من الجند والأتباع الذين ما يزالون يتحلقون حوله غير مصدقين ما حدث، يقول بصوت عالٍ: "بالروح بالدمّ"، ويبدأ جنده وأتباعه من حوله بترديد هتاف "بالروح بالدمّ معك" وإطلاق حناجرهم به مرارًا وتكرارًا.
تذكّرتُ المشهد السابق وأنا أقرأ في كتاب "سجون نختار أن نحيا فيها"، ويقول الكتاب بأنّ شعارات مثل "بالروح بالدم معكّ" أو "بالروح بالدمّ نفديك" وغيرها.. هي شعارات يُحبّ الطغاة سماعها من الجماهير لأنّها تُبرزهم كآلهة أمامهم، فهي تصوّرهم على أنّهم آلهة تمثل أمامها الجماهير كقرابين جاهزة للذبح وبذل الدماء، وبحسب الكتاب: "يعود كلّ هذا الإتجار بالدمّ إلى طقوس التضحية، وإلى آلاف السنين التي قام خلالها كهنة بشقّ حلوق بشر في البداية، ثمّ حيوانات بعد ذلك، ليتدفّق منها الدمّ إرضاءً لإله وحشي ما. إنّه أمر متغلغل فينا جميعًا بعمق، التضحية بالدمّ، والضحايا كقرابين وكباش الفداء".
إنّ طقوس التضحية هي طقوس لها جذور ممتدة في البشرية منذ آلاف السنين، وأولى مظاهرها بحسب الباحث "الأسعد العياري" في بحثه حول "المحمولات الرمزية للدمّ في الديانات السماوية" تتبدى في نظرية "الطوطمية" التي نشأت في المجتمعات القديمة، ومثّل فيها الطوطم بمختلف تشكيلاته (حيوانًا، طائرًا، نباتًا، ظاهرة طبيعية) القوة المختزلة للآلهة والرامزة إليها، وبحسب الباحث فإنّ "الطوطم" هو أيّ كيان يمثل دور الرمز للقبيلة، ويُقدّس باعتباره المؤسس أو الحامي، والرابطة بين الطرفين، بين الإنسان والطوطم، متبادلة، فالطوطم يحمي الإنسان، والإنسان يبرهن على احترامه للطوطم بأساليب مختلفة أبرزها ارتداء جلود الحيوان الذي يمثله، ووشم الجلود بصورته للتبرّك به والتقرّب إليه.
وبحسب الباحث، فإنّ العرب في الجاهلية قد عرفوا الكثير من طقوس التضحية، فقد سادت بينهم معتقدات تقديم البدن، وهي الإبل والأبقار السمينة التي تُهدى إلى مكة كقرابين للآلهة، وترشّ الأصنام بدماء الذبائح، وبحسبه "كان العرب زمن الجاهلية يقدمون لحم الذبائح للآلهة في شكل هدايا عسى تقربهم منها زلفى، ففكرة رشّ الدمّ على المذبح للربّ أو للآلهة تبدو متقادمة في التاريخ، وموغلة في الطقس الأسطوري الذي كان يحكم علاقة الإنسان بآلهته".
يؤكّد الباحث بأنّ الكثير من النصوص المقدّسة التي احتوت عليها كتب الديانات السماوية قد جاءت محملة بهواجس الدمّ سواء من خلال التأكيد على حرمة سفكه، أو إبراز كيفيات حضوره في أشكال شعائرية معينة للتقرّب إلى الإله المعبود في كلّ ديانة، وإنّ محمولات النصوص المقدسّة في الديانات السماوية حول الدمّ تأتي جميعها لتؤكّد على حرمة فِعل إراقته وتجريمها وتأثيمها، سوى في طقوس شعائرية أو تعبدية يُمارسها الإنسان ليتقرّب فيها إلى الإله الذي يعبده.
إنّ مشهد الطاغية في ذلك المسلسل يأتي كاختزال لمشاهد الطغاة في الواقع الحالي (العربي تحديدًا)، أولئك الذين يُبيحون لأنفسهم دائمًا أفعال القتل وإراقة دماء الجماهير الذين تُعارضهم، والذينَ لا يتعاملون مع أنفسهم كبشر، بل كورثة لآلهة من أزمنة الطوطمية والجاهلية، أو كآلهة فعليين لديانة الخوف الذين يصنعونها دائمًا بأساليب القمع والتنكيل، ويستخدمون فيها الدمّ باعتباره شعيرة استفزازية، تُسفَك علنًا أمام الجماهير لتعلّمهم "كيفَ تُصنَع الطاعة"!