20-يناير-2022

نيويورك بالقرب من تايمز سكوير (Getty)

نحن مكوّنون من أصوات اجتمعت وشكّلتنا. بيننا من تراهم فتشعر أنَّ نسبة حفيف الأشجار هي الغالبة، وبيننا من تتغلب على كياناتهم نشازات محركات السيارات أو ضجة الأدوات المنزلية.

صحيح أننا لم نعد نسمع كما يجب لكثرة ما غابت الأصوات الطبيعية وحلت محلها الأصوات الاصطناعية، لكن مع ذلك لا يزال الصوت هوية، ويمكننا أن نعرّف به بشرًا فنقول عن شخص إنه شخير، ونصف آخر بأنه أنين، أو تتفق مجموعة على كون امرأة، جدة أو حبيبة، بمثابة شهيق.

لا يزال الصوت هوية، ويمكننا أن نعرّف به بشرًا فنقول عن شخص إنه شخير، ونصف آخر بأنه أنين

ولأن ما يصحّ على البشر يصح على الأمكنة أيضًا، يمكننا ملاحقة هذه الفكرة والبحث عن الهوية الصوتية للأمكنة، فنرى أن ثمة بيوتًا يتسيّدها صوت سعال مريض، وأخرى واقعة تحت سطوة صراخ. حارات دمشق، على سبيل المثال، لها هيئة إيقاع أصوات ألعاب الأطفال فيها، لهذا فهم أكثر من يبدلون هويتها من ملعب كرة قدم، إلى مضمار سباق، إلى غابة، في حين تتلبس هوية الحارات الأوروبية صفة الصمت.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا نقرأ كتب التاريخ؟!

خلال وقت مديد مرّ علينا في هذه الأرض كانت أصوات الطبيعة هي التي تصنع شخصياتنا، لكنّ هذه حكاية قديمة الآن، فمنذ بدأت الصناعة والمكننة راحت أصوات الطبيعة تتراجع شيئًا فشيئًا، حتى وصلنا إلى زمن لا نكاد نسمعها فيه إلا حين نغادر المدن التي تحتل الأسماعَ فيها أصواتُ الضجيج المُصنّعة. كلما ازداد التطور ازداد معه الضجيج، كما يقول العلماء، ما يعني اختفاء الأصوات بكل أنواعها وطبقاتها وظهور شيء كتيم يدخل من فتحتي الأذن ليحتل الرأس ويجعل من الأفكار والخيالات والهواجس مجرد خردة.

ربما استطاعت عصور الحداثة أن تُخفي أصوات الأرض، لكنها بلا شك عاجزة عن إخفاء صوت السماء، فعلى الرغم من أن سكان المدن محرومون من التنعّم بالأصداء التي عرفها سكّان الأكواخ والخيام والكهوف، أو بإيقاعات الماء كما عايشتها القبائل التي استوطنت إلى جوار الأنهار والبحيرات، إلا أن أصواتًا قادمة من الأعلى كالرعد وهطول المطر تظل تعيد المجد للصوت، وهي تحضر بالقوة ذاتها التي جاءت فيها أول مرة.

هل هناك مادة أو آلة تفسّر الصوت؟ كيف يمكن تثقيف الأذن إلى الحد التي تصبح فيه قادرة على أن تراه أو تلمسه؟ هذا لا يعني أن بعض الآذان لا يستطيع ذلك، لكن الافتراض يرمي إلى جعل ذاك شائعًا شيوعَ الرؤية لدى كل من يملكون عيونًا، فنحن نرى مثلما يرى سوانا: الشجرة شجرة، والبيت بيت، والكتاب كتاب، لكننا لا نسمع هذه الأشياء على نحو متفق عليه.

هل هناك مادة أو آلة تفسّر الصوت؟ كيف يمكن تثقيف الأذن إلى الحد التي تصبح فيه قادرة على أن تراه أو تلمسه؟ 

من ناحية أخرى، هل استطاع العلماء والباحثون معرفة أصوات الأزمنة الخالية؟ ما الصوت الطاغي في بابل أو مصر القديمة؟ أو في مكة زمنَ ظهور الإسلام؟ إذا كان الصوت لا يترك آثارًا فعن أي معرفة نتحدث حين ندعي الإلمام بما حدث في الماضي؟

اقرأ/ي أيضًا: العطب وسيلة تعايشنا مع الفقد

لأجل ذلك كله تغني الكائنات من بشر كما من حيوان وطير. ثمة كلام كثير يقال في هذا، لكن كويتزي، في رواية "خزي"، يختصر الأمر إذ يقول: "يغني المغنون لكي يشرحوا لنا ما يجري في الداخل، ليس بالطريقة الفظة للفلاسفة، ولا بالطريقة المرعبة لرجال الدين، بل بالطريقة التي تسمح لنا أن نرى أنفسنا من الداخل مثلما نراها من الخارج. ويغني المغنون.. حين يتخلون عن الكلمات واللغة، كي يتوحدوا بالصوت، بالعالم، العالم صوت. لو فني لن يبقى منه غير صوت".

 

اقرأ/ي أيضًا:

القيامة في آب

صعوبات فنجان من القهوة