يفتقر حقل التحول الديمقراطي في العالم العربي إلى التنظير في مجال العدالة الانتقالية، رغم أنه جانب راهن في خضم التحولات السياسية الناتجة عن انتفاضات الشباب العرب عام 2011، وفي تونس اليوم -تحديدًا بعد انتخاب قيس السعيد- يتوقع أن يفتح النقاش حول العدالة الانتقالية، الذي نأمل أن يكون بهدوء دون إثارة غضب الأمنيين والعسكريين وأصحاب رؤوس الأموال والقضاة، لنحافظ على سلامة الانتقال الديمقراطي فيها، ذلك أن الاستثناء التونسي يحفه الكثير من المخاطر الاقتصادية ومحاولات التدخل الإقليمي والدولي الذي لا يكل من دعم المؤسسة العسكرية ماليًّا، وتخريج ضباط من الكليات العسكرية الأمريكية ليعودوا إلى بلادهم برتب عليا، ويدعمهم بالمعدات البحرية والبرية، وحتى بدعم إنشاء كليات عسكرية، حتى تكون ورقة ضغط بأيديهم يستخدمونها عند الحاجة.
انقلاب العسكر في مصر أنهى مسار ملف العدالة الانتقالية الذي كان موضع نقاش عام 2012
فلا يغيب عن الذاكرة أنَّ ملف العدالة الانتقالية كان موضع نقاش واسع في مصر عام 2012، وشاركت فيه التيارات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وشباب الثورة المصرية، إلّا أنَّ انقلاب العسكر أنهى مساره.
اقرأ/ي أيضًا: عصام العامري في كتابه "المأزق العالمي للديمقراطية".. الشرعية التي تتآكل
إن كان انعدام التنظير العربي في الموضوع مفهومًا في ظل الأوضاع السياسية العربية البائسة، فإنَّ الدكتور كمال عبد اللطيف يُطلعنا على تجربة عربية "مفاجئة" في تطبيق العدالة الانتقالية، وذلك من خلال كتابه "العدالة الانتقالية والتحولات السياسية في المغرب" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014).
حاول كمال عبد اللطيف في دراسته المهمة مناقشة مفهوم العدالة وتحولاته في الفكر المعاصر، واقترب في الشق الثاني من الدراسة إلى نتائج تجربة المغرب في هذا الباب عبر تاريخ "هيئة الإنصاف والمصالحة" وإنجازاتها، وكيفية مواجهتها ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
العدالة والعدالة الانتقالية
يستعرض الباحث المنجزَ النظري للفيلسوف جون رولز في قضية العدالة ومدى تأثيره في الفكر المعاصر، وبحسب كمال عبد اللطيف تعد أبحاثه من أهم النصوص في نظريات العدالة لأنه حاول وضع "نظرية جمعت بين الوفاء لمكاسب نظرية التعاقد (لوك-روسو-كانط) مع خيار فلسفي آخر يفضي إلى نقد المذهب النفعي المهيمن على التيارات الفكرية في أمريكا، وحاول رولز بناء نظريته بموجب المتغيرات البنيوية للمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المجتمعات الديمقراطية". واستلهم رولز في بنائه للنظرية نضالات الفئات المهمشة والفئات المطالبة بحقوقها في المجتمع الأمريكي، كما حاول التأمل في نتائج حرب فيتنام وتأثيرها على المجتمع الأمريكي؛ لهذا يعتبر العمل المركزي لرولز هو ربطه العدالة بالحرية والإنصاف وتكافؤ الفرص، وربط المفاهيم المذكورة بالديمقراطية والإصلاح السياسي الديمقراطي.
كما ينتقل الباحث عبد اللطيف إلى أعمال الاقتصادي الكبير أمارتيا سِنْ، المختص بقضايا الفقر في العالم، إذ يطرح سؤالًا مركزيًا عن كيفية مواجهة الأوضاع الجائرة التي تعرفها المجتمعات المعاصرة، ولا يمكن في رأيه مقاربة السؤال إلا بالتفكير العملي في مواجهة الفقر "أي التفكير في الإجراءات المساعدة في عملية تحقيق العدالة".
يخلص الكاتب إلى أن أعمال هؤلاء الفلاسفة تميزت "بمساعيها الهادفة إلى تخليص مفهوم العدالة من الكثافة النظرية الطوباوية التي ظلت متمركزة في تلافيف معانيه في تاريخ الفلسفة على الرغم من الاختلالات القائمة بين تصور كل منهما للعدالة وكيفيات تحقيقها، وحاولا معًا تخليص المفهوم من صور التعالي بتأثير من تصورات فلاسفة الأنوار لمفهوم العدالة، والامتدادات التي عرفتها هذه الفلسفات في الفلسفة الماركسية".
يدرس مفهوم العدالة الانتقالية خصائص المجتمع عمومًا في طور انتقال المجتمعات التي تكون على عتبة الديمقراطية
أما مفهوم العدالة الانتقالية فلا يحيل إلى ذات البعد الذي يحمله مفهوم "العدالة"، بل يحيل إلى عالم السياسة، لأنه يدرس خصائص المجتمع عمومًا في طور انتقال المجتمعات التي تكون على عتبة الديمقراطية. وما يريد الباحث التأكيد عليه هو أن العدالة الانتقالية تندرج ضمن أفق التحول الديمقراطي الذي يمكن أن يحصل بالتوافق التاريخي من خلال اعتماده على مجموعة من الخطوات والإجراءات المسنودة بإرادة سياسية محددة، مستشهدًا بأدبيات "المركز الدولي للعدالة الانتقالية" الذي يقول بأن المقاربة الشمولية للعدالة الانتقالية تستوعب مجموعة من العناصر هي: المحاسبة والكشف عن الحقيقة والمصالحة وإصلاح المؤسسات وجبر الضرر. وهو ما يذكرنا بذات العناصر التي نظرت لها نويل كالهون في كتابها "معضلات العدالة الانتقالية" في استراتيجية سياسات الحق والعدل.
اقرأ/ي أيضًا: "الجندي والدولة والثورات العربية": من النظرية إلى آلية الوقاية من الانقلاب
هذه المقدمة النظرية الأقل تعقيدًا مفيدة جدًا للقارئ العربي لتوضيح الانزياح في مفهوم "العدالة" الذي يطرحه حقل العدالة الانتقالية، ومدخل جيد لفهم آلياته وأدواته وأهدافه التي هي بالضرورة أقل طموحًا من "العدالة" بمفهومها الأشمل، التي يؤمن بها عامة الناس.
قصة العدالة الانتقالية في المغرب
اعتاد الباحثون دراسة تجارب العدالة الانتقالية بعد انهيار الأنظمة السياسية أو اقتراب انهيارها كما في حالات جنوب أفريقيا والأرجنتين وتشيلي، إلّا أنَّ كمال عبد اللطيف يعرّفنا إلى تجربة "مميزة" هي حصول العدالة الانتقالية مع استمرار الأنظمة القديمة في الحكم، وهي التجربة التي كان شاهدًا عليها في مملكة المغرب.
يوضح الباحث السياقات التاريخية للانتقال السياسي في المغرب التي أدت إلى إنشاء الهيئة المستقلة للإنصاف والمصالحة، والتي ابتدأت من تسعينيات القرن الماضي في أواخر عهد الحسن الثاني ضمن الإطار العام الذي انخرطت فيه المغرب سياسيًا دولة ومعارضة في عملية "توافق تدريجي على جملة من الإصلاحات السياسية الهادفة إلى إعادة ترتيب علاقة الدولة بالمجتمع؛ واستجابت الدولة للضغط الداخلي الذي مارسته أحزاب المعارضة والتنظيمات المدنية"، خصوصًا مع مرض الحسن الثاني في السنوات الأخيرة لحكمه.
اعتاد الباحثون دراسة تجارب العدالة الانتقالية بعد انهيار الأنظمة السياسية أو اقتراب انهيارها كما في حالات جنوب أفريقيا والأرجنتين وتشيلي
عام 1999، تولّى محمد السادس عرش المغرب، ورغم استمرار الدولة ذاتها في الحكم، إلّا أنَّ خيار تصفية تركة الماضي التسلطية والتمهيد للانتقال السياسي كان حاضرًا في السنوات اللاحقة، فأُحدثت هيئة الإنصاف والمصالحة بقرار ملكي في عام 2003، وتم تنصيبها في عام 2004.
اقرأ/ي أيضًا: رمزي منير بعلبكي في "التراث المعجمي العربي".. موشور لغوي بكل الألوان
حدّدت مهمات الهيئة بتناول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب بين عامي (1956- 1999) أي منذ الاستقلال إلى وفاة الحسن الثاني، لكنها اهتمت بأحداث فترة الحسن الثاني (1961-1998)، وأغفلت السنوات الأولى من الاستقلال (1956-1961) أي زمن محمد الخامس.
كما حدّدت منهجية عملها في "البحث والتحري في الوقائع والأحداث التي شكلت الملامح الكبرى لسنوات الرصاص" إبان حكم الحسن الثاني، ثم تقويم الحوادث الحاصلة بهدف تقديم اقتراحات تسمح بتجاوز تركتها في الحياة السياسية، "وبلورة التوصيات التي يفترض أن يساهم إنجازها في تحقيق الإنصاف وجبر الضرر، ثم بلوغ المصالحة".
وكان أغلب أعضائها من المناضلين السياسيين والحقوقيين ممن تعرضوا للانتهاكات في العهد السابق، وبعضهم الآخر من عائلات بعض الضحايا، "الأمر الذي يكشف جوانب من الصعوبات التي كانت تواجهها".
في 23 و24 كانون الأول/ديسمبر 2004 والأشهر الأولى من عام 2005، عُقدت جلسات الاستماع لضحايا حقوق الإنسان، حيث جمعت الهيئة ما يزيد على عشرين ألف ملف، وقررت الاستماع إلى مائتي شهادة حية منها، ونقلها مباشرة إلى قنوات الإذاعة والتلفزة المغربية، وكان الهدف من جلسات الاستماع تمكين الأجيال الجديدة من معرفة وقائع ومعطيات فظيعة جرت في المغرب الذي يروم التصالح مع ذاته، وذلك بتصفية جوانب من تركة ماضيه السياسي المثخن بالظلم والاستبداد. ويعتبر كمال عبد اللطيف جلسات الاستماع من الحوادث القوية التي "خلخلت أركان النظام القمعي في المغرب" فهناك بعض أجهزة الدولة التي مارست تحفظات سياسية ساهمت في استمرار غموض بعض الملفات الشائكة أهمها اختفاء واغتيال السياسيين كـ: المهدي بن بركة والحسين المانوزي وعبد الحق الرويسي وعبد اللطيف زروال، وبعض الأجهزة في الدولة قدمت المساعدة للهيئة لإنجاز ما تراه ملائمًا لطي صفحة الماضي.
كما أشار عبد اللطيف إلى استفادة الكُتّاب من مناخ الحرية الجزئية لإطلاق عشرات الكتب التي توثّق تجارب الاعتقال والقمع التي عاشوها، ما شكّل مكتبة خاصة بأدب السجون المغربية، ليتوّج الأمر بإعداد باحثين مغاربة لبيبليوغرافيا شاملة بعنوان: "ظلال وأضواء: بيبليوغرافيا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب" في خطوة استثنائية الدلالة!
التقرير النهائي لهيئة الإنصاف والمصالحة
يرى الباحث عبد اللطيف أنَّ تقرير الهيئة النهائي، الذي جاء في ستة أجزاء ومئات الصفحات، منجزٌ متميزٌ في العمل الحقوقي السياسي في تاريخ المغرب المعاصر. ورسم أهدافًا مهمة هي: حفظ الذاكرة والتصالح مع زمن مضى، ثم بناء ما يمنع تكرار ما جرى، أي بحسب الكاتب تحصين الحاضر والمستقبل من استمرار الانتهاكات الحقوقية، ودعم مشروع الإصلاح السياسي الديمقراطي.
ولتوضيح حجم الجهد الذي قامت به الهيئة، نذكر مثالًا لأعمالها في مجال جبر ضرر الضحايا، حيث بلغ عدد الملفات التي طالبت الهيئة بتعويض الضحايا فيها قرابة سبعة عشر ألف ملف (16861 بالتحديد)، تم اتخاذ قرارات إيجابية بخصوص 58 % منها فقط، وتوزّعت القرارات بخصوصها بين التعويض المالي في غالبها، وجبر الأضرار من دون تعويض مالي لألف وخمسمئة ملف تقريبًا.
يعتبر كمال عبد اللطيف جلسات الاستماع من الحوادث القوية التي "خلخلت أركان النظام القمعي في المغرب
ورغم هذا الجهد الكبير، إلا أن التنفيذ لا يسير على قدم وساق، ولا زالت الهيئة حتى اليوم هيئة استشارية، وليست ذات صلاحية قضائية ولا تنفيذية، ويذكر نشطاء مغاربة آخرون أنَّ "عدم تكرار ما جرى" أمرٌ لا زال بعيدًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أحداث 20 شباط/فبراير 2011 وحراك الريف والمحاكمات التي تلته.
لكن مكاسب الهيئة في نظر الباحث أنها ساهمت في حفر مجاري العدالة الانتقالية، وهو يفترض أنها تستدعي في الراهن السياسي مزيدًا من "مغالبة المصالح الفردية واستحضار الهم الجماعي؛ ذلك أن تعثر العدالة الانتقالية في صيغتها المغربية كثيرًا ما يستدعي المبادرة والتعبئة السياسية، بهدف استثمار مكاسب مسلسل الإنصاف وولوج دروب الانتقال الديمقراطي الأخرى، الأمر الذي يتطلب أولًا استكمال عملية تفعيل توصيات الهيئة التي لا تزال معلقة".
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "فجر العرب".. الشباب هم أبطال الاحتجاج وعدم الاستقرار والإصلاح والثورة
ختامًا، فإنَّ كتاب الدكتور كمال عبد اللطيف مقدمة واجبة القراءة لحقل العدالة الانتقالية، سواء في وضوح واختصار مقدمته النظرية، أم في استعراضه تجربة عربية، أم في خصوصية هذه الحالة لجهة الواقعية السياسية، والتفاوضية العالية بين النظام الحاكم والمعارضة، فمآلات تجارب العدالة الانتقالية لا تقاس -كما يقول عبد اللطيف- "بما يترتب عليها من إصلاحات سياسية فحسب، بل بما تتيحه من محاولات لرد الاعتبار إلى العمل السياسي وإلى السياسة بوصفهما حيزًا للصراع الديمقراطي.
اقرأ/ي أيضًا:
الازدواجية اللغوية والعلاقة بين الشفوية والكتابة التاريخية عند العرب