ربما علينا أن نتعلم شيئًا أو أشياء مما حصل في تركيا، أي نحن العرب إن جاز الحصر والتشديد، فبعيدًا عن آرائنا المتعددة المختلفة وانقسامنا حيال شخص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وخطط وأفعال نظامه سواء قبل محادثاته الدبلوماسية الأخيرة في "إسرائيل" وروسيا أو بعدها، ربما يجب أن لا نختلف حيال إرادة الشعب التركي في تعظيم الديمقراطية، والبُعد عن تقديس الرموز والحكّام، هذه القضية والنقطة الجوهرية التي ظهرت جليًا في أحداث سهرة أمس الأول، وهي ذاتها التي فاتتنا ولا تزال في نظرياتنا المتنوعة حيال ما حصل ويحصل في وطننا العربي.
اتفاقنا على الفكرة التالية سيعيننا كثيرًا في الحديث، تركيا لم تخرج بعد منتصف الليل حبًا بأردوغان أو رئيس الوزراء الجديد بن علي يلدريم، ولا حتى تأييدًا لسياسات النظام التركي الخارجية في سوريا ومصر أو أي مكانٍ آخر، بل حمايةً لوطنهم من جحيمِ انقلابٍ عسكري خامس، يعيد البلاد مرةً أخرى سنواتٍ جديدة إلى الوراء، وهروبًا من حكم العسكر الذي لم يدخل بلدًا إلا وعاث بها فسادًا وظلمًا، رغم وعود جميع القادة العسكريين بعد الانقلابات بالحرية والكرامة، والنهوض بالدولة وتنمية الاقتصاد وتمكين الشباب!
الأنظمة تزول وتبقى الشعوب، فمن كان يكره أردوغان فإن أردوغان سيرحل أو سيموت، ومن كان يكره الشعب فإن الشعب حيٌ لا يموت
لقد عانى الأتراك بما فيه الكفاية ليرّوا بلدهم تصل إلى ما هي عليه الآن من تقدمٍ اقتصادي بالمقام الأول، وقوةٍ سياسية بدرجةٍ أقل بالنسبة لاهتمام المواطن التركي البسيط، هذه المكانة لم يتملكوها بفضل حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ عام 2002 وحتى الآن، بل باحترامهم للديمقراطية وتداول الكرسي واحترام رأي الأغلبية وما يفرزه صندوق الاقتراع، علاوةً على نفورهم من حكم عسكرٍ جديد يعيد ذكرياتٍ مقيتة، حين كان ختامها عام 1997 عندما أطيح برئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان.
هذه الفكرة ظهرت بشكلٍ صارخ في محاولة الانقلاب الأخيرة التي باءت بالفشل الذريع، فقيادات الجيش العليا وأحزاب المعارضة وسياسيون سابقون خرجوا للعيان منذ اللحظات الأولى؛ لينددوا بما حصل في شوارع أنقرة وإسطنبول، خوفًا على تركيا لا على أردوغان، شيءٌ كهذا لم يكن ليحدث في بلدٍ عربي، فلقد شاهدنا جميعًا ما حصل في مصر قبل ثلاث سنوات، والتي لم تكن حالةً فريدة لدينا، بل هي ملخصٌ للفكرة، وتطبيقٌ عملي يُسهل من المناظرة والمقارنة.
اقرأ/ي أيضًا: الليلة الكاشفة.. تركيا في الإعلام العربي
في أحداث 30 يونيو المصرية، لم تظهر شخصيات كحمدين صبّاحي ومحمد البرادعي وآخرين كثر من أجل نصرة الديمقراطية وإبعاد استغلال العسكر، بل على العكس تمامًا، كل ما فعلوه حينها هو تحشيد مناصريهم والدعوة إلى التظاهر لإسقاط محمد مرسي، وهذا ليس محاماةً عن أخطاء نظام الإخوان وفشلهم بإدارة البلاد، بل دفاعًا عن سرقة حكم الشعب لنفسه، وتربص الجيش للانقضاض على عرش أم الدنيا.
صحيحٌ أن المقارنة الاقتصادية متباعدة جدًا بين تركيا ومصر، والفروق في العدالة الاجتماعية تكاد تلغي المعادلة من أساسها، ومدة الحرية السياسية التي عايشتها مصر تقارب من اللا شيء، لكن هنا يظهر القدر الحقيقي لاحترام الشعوب لإرادتها الحرة، وتوقير ما توافق عليه الشعب حتى وإن كان المُنفذ مبتدئًا أو لم يحسن التصرف، ويظهر كذلك كيف أن المصريين لم يتعلموا من حكم العسكر المتواتر لعشرات السنوات، بينما حفظ الأتراك الدرس سريعًا وحموا بلدهم من "بساطير" الجنود.
مصر مثالٌ لا أكثر، ولقرب وجه الشبه هنا كان استخدامها، لكن ما يلفت النظر حقًا هو ردة فعل الجماهير العربية، سواءٌ من تحمس وهلل لبدايات الانقلاب العسكري كأنصار النظام السوري، أو من احتفل وابتهج بفشل المحاولة الخامسة تاريخيًا خلال خمس ساعات، كداعمي الإسلام السياسي بمختلف ألوانه، لكلٍ وجهة نظره وأسبابه المختلفة، والتي تقع على النقيض مقارنةً بالآخر، ولكن صاحب الثقل في كل ناحية كان أردوغان.
لطالما كان عمدة إسطنبول الأسبق شخصية جدلية في الأوساط العربية، فمنّا من يحبه ويعشقه، ومنّا كذلك من يكرهه ويبغضه، ويقف من الوراء الصنف الثالث والمتبقي، وهم من أخذوا أردوغان كنموذجٍ يحتذى به وتجربةٌ يمكن أن يتعلم منها الكثير، فسواء أيدناه أم رفضناه، لا يمكننا أن ننكر ما قام به أردوغان داخليًا، بعيدًا عن خلافنا حول نظرته السياسية الخارجية، فما صنعه لشعبه كان أمرًا خياليًا، بعدما رفع حزب العدالة والتنمية تركيا من الحضيض إلى مناطحة السحاب، ولهذا استحق احترام شعبه ووقوف المعارضة في صفه قبل مناصري حزبه أثناء وبعد الانقلاب الخاسر.
اقرأ/ي أيضًا: تركيا... انقلاب أو تمرد
لكن هذا يبقى أمرًا تركيًا بحتًا، وليس بالمفهوم لماذا علينا أن نعشقه وكأنه فخر الصناعة العربية، أو أنّ لنا فيه ناقةً أو جمل، لا بأس أن نعجب به أو نحاول استنساخ ما يليق به في بلادنا، إنما تحويله هو وصاحبه إلى رموزٍ قيادية لدينا! هذا ما ليس بالمفهوم، وكأنه ينقصنا شخصياتٌ نقدسها دون الوطن، فنحن وصلنا لدرجة الإشباع المتخم في هذه القضية، لدرجة أن عِشقنا للقادة سواءً من ماتوا أم من يحكمون الآن، يفوق مصالحنا الوطنية ومبادئنا العليا، فبقاء الزعيم أولى من بقاء الملايين، هكذا كتب في قاموس السياسة والأحزاب لدينا نحن العرب.
هذا من جانب المؤيدين، أما المعارضين فهم قضية أكبر، أو بالأدق لنقل "أعجب"، فمن الممكن جدًا أن يتفهم القارئ العربي فرحة مناصري النظام السوري حين سماع أول الأنباء عن محاولة الانقلاب، كيف لا وأردوغان متهمٌ كبيرٌ جدًا بالنسبة لهم فيما يحصل في سوريا، ولكن من غير المبرر أن ينتظر بعضهم تكرار سيناريو مشابه لسوريا في تركيا، حتى وإن كان مصغرًا، أو أن يأملوا بشلالات الدماء وضحايا بالمئات والألوف، فقط من أجل "رد الدين" لأردوغان وإذاقته من ذات الكأس، تمنوا إزاحته بثورة تركية لا بأس في ذلك، أما بالدماء والدمار! بماذا ستختلفون حينها عما تتهمونه فيه؟
من المعيب أن نتمنى لأي بلدٍ أن يذوق ما ذقناه، نحن من عرفنا الموت والويل على حقيقتهما في كل وطننا العربي، حتى وإن كان جزء منّا يتهم قائد ذاك البلد بقضايا عديدة، لكن ما ذنب الشعب بسياسة نظامه الخارجية؟ إن الأنظمة تزول وتبقى الشعوب، فمن كان يكره أردوغان فإن أردوغان سيرحل أو سيموت، ومن كان يكره الشعب فإن الشعب حيٌ لا يموت، وهذه العبارة ليست لتركيا، بل لنا نحن جميعًا، من عبدنا الأنظمة والحكام فوصلنا إلى ما نحن عليه الآن، أما تركيا فعلمتها وفهمتها قبلنا، فوصلت إلى ما هي عليه، ليس من اقتصادٍ وسياسة، بل من تماسك الحاكم والمعارضة والشعب معًا، لعلنا نتعظ!
اقرأ/ي أيضًا:
سكاي نيوز عربية.. ما هكذا يُصَدق الكذب